(6647) يوماً مرَّت على رحيله من هذا الوطن ، ومازالت روحه (تسولِت) بيننا ... ومازلت مفجوعاً كصغار العصافير التي رحل حاميها وكافلها وتركها وحيدةً على عُش المعاناة ...
(6647) يوماً ومازال جسده طريح التراب ، مثله مثل أغصان الأشجار التي تتساقط مع رياح القدر دون أن تنتبه إلى حوجة العصافير إلى هذا الغصن الذي لطالما أقلها وأظلها ...
في ساعاتٍ مبكرةٍ من الواحد والعشرين من ديسمبر القديم ، أمرتني أمي بالخروج لهذا الكوكب والخروج من أمانها ودفئها إلى برد الوطن وجحيمه ، لم أكن – حينها – أملك القدرة على الإعتراض والتشبث بحبلي السُري رافضاً الخروج ... فقط كان علي أن أخرج لأن تلك الغرفة أكملت تكويني وأصبحتُ كبيراً على المكوثِ فيها .. بحثتُ كثيراً عن ضمانات الخروج وعن الأشخاص الذين يستحقون التنازل عن (جَنينيتي) ومقابلتهم بالخارج ،
قطعاً لم تكن أمي قد سمعت (به) بعد .. ولكنها كانت تملك وعدها لي بلقائه ، لهذا كنت أشعر بها دوماً تُهيئني لهذه اللقيا ...
نادراً ما كانت المجتمعات القروية – وقتها – تحتفل بعيد ميلاد صغارها ، يكفيها أنها أنجبتهم فقط ، وهذا يكفي في وجهة نظرهم القديمة ... لهذا كان علينا أو كان عليَّ أن أجد وحدي عيدي الخاص بي ... وكنت طوال تلك الفترة أبحث عنه ، لكي أُعلن للآخرين ميلادي الجديد غير ذلك الذي تثبته أوراقي الثبوتية التي تمثلة شهادة ميلادي الممزقة إلى الآن ..
كنتُ ما أزالُ غض الأحلام والروى ، ويستهويني هذا الشيطان المدعو الشعر ولا أدري لماذا ... وأنا الذي تعلم لتوهِ أن يفلت من مرحلة الحبو وأصبح يسير على قدمين ، تماماً كالعصافير ... شيءٌ ما يجذبني نحو هذا الشعر منذ لك الحين .. ولا أدرى إلى الان ماهو هذا الشيء ... كنت أسمع صوت (القماري) قصيدةً لا يفهمها غيري وخرير المياه بالنسبة لي سيمفونية لطالما كنتُ أستمتع بها .. البحر الذي – لحسنِ حظي – وجدتة يمثل خلفيةً لقريتنا الصغيرة ، كان من أكبر المعطيات الجميلة في عالمي الصغير وأنا ابنُ الخمس سنوات .. فقط البحر ومحاولة الرسم كانا مايلهياني عن الإستمتاع بطفولتي واللعب مع الأطفال الآخرين .. وكان هنالك جنين متمرد (يفرفر) في رحمِ مخيلتي يسمى الشعر .. لا أدري عنه أي شيء سوى أنه أحياناً يجعلني أستمع لصوت الأشياء بوضوحٍ مخيف ، لكأني بالأشجار والبحار تهمس لي همساً أدركه وحدي وأتكتم عليه كي لا أُتهم بالجنون .. ما كان لأصدقائي أن يصدقوني إذا قلت لهم أن تلك الشجرة قد حكت لي قبل لحظات عن قصة نموها وعدد الذين استظلوا تحتها وعدد الطيور التي (زُرْقت) على فروعها و(رُزِقت) على أعشاشها ، وعدد الفراخ الصغيرة التي تخرجت منها ... ولكأني بالقمر يخبرني عن تشوقه لوجه أمي الذي يراهُ بعد كل إكتمال . إستمرت هذه الحالة الشعرية مع استمرار تنفسي وتسارع نبضاتي ... ولكنها كانت في حوجةٍ لمن ينظِّم خط سيرها .
شيئاً فشيئاً أدركت كيف مات (عم عبد الرحيم) وماذا تعني (فردة جناحي التانية) لمصطفى .. وأصبحت أبحث بشدة عن هذا المدعو (حميد) ... وزادت دهشتي الطفولية حينما أدركتُ أن قراءة أشعارة مثل (الشراب من زير مدير المدرسة) لا تتم إلا سراً وفي وقت غياب (الغفير) ... وحينما تسآءلت لماذا ، قالوا لي لأن (مدير المدرسة) لا يسمح أن نقول أن (موية زيرو) هي ملك للجميع .. مع أنها كانت يجب أن تكونَ كذلك .. إذ ليس من اللائق أن يستمتع هو بهذا الماء البارد داخل (زيرو) الذي ينام في الظل ، ويتركنا نتقاتل في الشراب من مياه (المواسير) المحرقة ..
أذكر أنني أعلنت ميلادي الحقيقي بعد أول لُقيا (معه) .. كانت أمي محقةً إذاً ولم توعدني بلقياهُ عبثاً لكي تضمن خروجي ثم تقول لي (كان ما غشوك ، ربوك !!؟ ) .. أحسستُ وقتها بأن (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) ، وأصبحت متشبثاً به جداً لانه خيط الحياة الرفيع جداً الذي يحول بيني وبين الفناء ، لم أندم على إحتفالي بأعياد ميلادي التي مضت دون حتى أن أنتبه لها ، بل ندمتُ على كل ثانيةٍ مضت بدونه .
ولكن هذه المرة مرَّ العيد بكل قسوتة وظلمه على نفسي ، كنت كثيراً ما أحتقرُ نفسي في بعض الأحيان .. ولكن هذا اليوم إحتقرتها أكثر ، إذ كيف إرتضيت أن أفرح بعامٍ جديدٍ على مرأى من رحيله ، وكيف لي أن أحتفل به ، وهو ملتحفٌ ترابه ..
في ما مضى من أعياد كنت أسعد جداً بهذه الذكرى وأحتفي بها بطريقتي الخاصة رغم بساطة الإحتفال ، لأني وقتها كنت أدرك أنه ما يزال حياً ونتنفس سوياً ذات الأوكسجين ونصارع سوياً ذات الوضع وذات الوطن .. وهذا ما يبقيني رهن الأمل والتفاؤل . ويدعني أتمنى أن يمد الله في عمرهِ لكي أستمتع أنا بما تبقى من عمري .
(6647) يوماً وهو غائبٌ عنَّا ، ربما يمزح مع خلوده الأخير هنالك ، أو ربما يلهو مع عدمه وغيابه ريثما يفاجئنا بحضورة ذات حوجةٍ ما ...
(6647) يوماً لم أستطع فيها أن أنساهُ وأن أسلك ذكرى أخرى غير ذكراه ، كنتُ محاصراً بوجوده أيما حصار وأسيراً لذكراه أيما أسر .. لهذا صَعُبَ علي أن أهنأ بعده ، وصَعُبَ علي أن أمارس سعادتي بعد رحيله ، فكلما راودتني شهوة الحياة والفرح ، تأبى الأحزان إلا وأن تمنعني فرصة أن أفرح كما يفرح الآخرون ..
وأقسم أن كل ضحكةٍ ضحكتها بعد موته ، كانت كذباً ونفاقاً وكانت محاولة يائسة مني للتشافي والظهور بمظهر الشخص المعافى من الحزن .. حتى لا يتهمني الآخرون بالجنون والإنطواء ، قد أكون تحدثتُ كثيراً في هذا الموضوع .. ولكن صدقوني لا شأن لي في هذا ، فأنا أجد قلمي يكتب هذا رغم أنفي ورغم محاولتي الفاشلة للنسيان .. لأنكم لا تعلمون معنى أن تعيشَ على أنقاضِ وطنٍ مطمور تحت التراب .. وأن تثرثر في حضرة من يحتاج اللغة أكثر منك ويعبر بها أفضل منك .. ولكنه لا يملك قدرة أن يبوح بها .
أسفي على تلك القصائد التي مضى بها ، وعلى اللغة التي سجنها في داخله وأنصرف ، وعلى كل كلمةٍ لم يقلها بعد .. أسفى على كل الأيام التي ستمضي بدونهِ وكل الأيام التي لا يزينها حضوره ..
وأسفي على عدم تمكني من الرد على تهنئتكم ، وأسفي على هذا النشيد.