ثابت : خلودُ الطين
كانت المدينة حينها تقف على شفأ جرحٍ من الوطن ... وكان الوطن ساعتها يهيئ جلده لجرح جديد ، كنت وقتها خارجاً للتو من قصيدة قديمةٍ أحاول جاهداً أن ألبسها ثوب الخلود .
(هو) كان في الجانب الآخر من ذاكرة المدينة يعد نفسه لأغنية جديدة من أغاني عقد الجلاد .. رتب لنا القدر لقيا ذات لحنٍ ما .. أذكر أننا تشاجرنا في أول مرة إلتقيته فيها ، تشاجرنا في وضع تنوينٍ صغيرٍ على حرفٍ نزع عنه متعمداً (عمة) الإعراب . أنا أقول أن هنالك تنوين في نهاية الكلمة و(هو) يصر على عدم وجوده ، إكتشفت لاحقاً أنه كان على حق ، رغم خطأه ..
صرت أتردد عليه كثيراً في إحدى المكتبات التي كان يعمل بها .. يسمعني أغنية لعقد الجلاد فأطرب لها أكثر حين أسمعها معه .. سويا" كانت تذهلنا أصواتهم ، عرفت أنه (من كل حته) حينما سألته عن إسمهِ وقلت له (أنا من الجزيره) حين سألني لمن أطرب .
فرحت أيما فرح بلقائه وحمدت الله كثيرا" أن وهبه لي على حين صدفة ، كنا نحتسي (الطمباره والغناي) كلما ألتقينا على ضفةِ لحن ، أذكر أنني كنت على أعتاب التخرج من الجامعة وكان هذا مايحزنني وقتها فلطالما كنت أمني نفسي بالبقاء معه أكبرَ فرحٍ ممكن .. لهذا كنت أستغل كل الثواني المتاحة لي في تلك المدينة للقياه .. كنا نتلاقى في كل شي ولنا ذات الإهتمامات ، أنا أدمن قصائد حميد ، و(هو) يكره قصائد المرتزقة والمستشعرين .. (هو) يعشق عقد الجلاد ، وأنا أبغض أنصاف المطربين و(المغنين المطاليق) .. أنا أدَّعِي اللا شان لي بتشجيع كرة القدم ، و(هو) غارق في لونه الأحمر .. (هو) يحب القهوة ، وأنا أذوب في رائحتها .. أنا نحيف الأحلام ، و(هو) ضخم الرؤى ...صرنا بعد ذلك نتقاسم هوسنا وإنكسارنا ، يمنحني من إنتصاراته البسيطة في الحياة ما يعينني على تحمل إنهزامي .. تزداد معه اللحظات دفئا" ورونقا" ويعلو عندي قدره السامي .. عشقه اللا نهائي لناديه الأحمر كان يخبأه عندما يلقاني كي لا يجرح حيادي الرياضي ..
كنت أدرك يقينا" أنني على موعدٍ مع أشياء أجمل كان يحملها لي ، وتأكدت من يقيني هذا عندما هاتفني ذات مرة قبل أحد أعياد الأضحى بيوم واحد ، قال لي أن هنالك عُطلا" في سيارة صديقه وهما الآن في مدينة ود مدني ، كان هذا الخبر بمثابة عيدية مبكرة بالنسبة لي فهرعت إليه في الحال ، وجدت معه صديقه فقال لي (هذا صديقي فتحي) ، ولكنني سمعتها في لحظتها (هذا صديقك فتحي) ..
لم أذكر ماقلته وقتها ولكن دونت هذه اللحظة في قائمة أجمل لحظات عمري ، صديقه هذا الذي أهداهُ لي ، كان أروع شخص قابلته بعده .. أخذت كفايتي من هذا العيد المبكر وقفلت راجعا" للمنزل على أمل لقيا جديده (بهما) .. منذ تلك اللحظة إختفى الضمير الواحد وأصبحت ألتقيهما سويا" .
أذكر أنه بعد إنقضاء عطلة عيد الأضحى قاما بزيارتي في منزلنا .. ورغم قصر مدة الإقامة ، إلا أنني كنت في غاية الفرحة لأنني رافقتهم إلى ولاية القضارف برفقة شقيقه ..
لو كان الأمر بيدي حينها لتمنيت ألا نصل .. فقد كنا نسير تحت مظلة الود والوفاء والحب طوال مسافة الطريق .. وكنت أنا أقتطف من ثمار هذه الصحبة ما وسعت يداي .. ثلاثتنا كنا نهزأ من اليأس والملل متى ما التقينا ، وكنا ننام في قمة سعادتنا حينما نفترق على موعدٍ قريب ..
كنت قد تخرجت وقتها .. ولكنني أستغل كل الفرص المتاحة لي للقياهما ، في العام 2009م كان (هو) على وشك الدخول إلى حياته الزوجية .. تركت حينها كل شيئ حتى أكون رهن فرحته ، كنت أكثر سعادة" حينها وألتقيت بكل أفراد أسرته التى جاءت من مختلف مدن السودان لحضور هذا العرس الذي لطالما حلمو به .. كثير من القفشات والمواقف الجميلة إختزنتها ذاكرتي في ذلك اليوم ، في حفل العرس كان يتلألأ وسط أصدقائه وكنا نمازح بعضنا عمَّن يستطيع حمل العريس على كتفيه وتبارى أصدقائه في حمله رغم رفضه لهذا الأمر .. كنت أهمس في سري وقتها وأقول إن مساحات التلاقي بيننا ستتقلص بعد عرسه ، فقد لا يجد الوقت الكافي لنا ولها .. ولكن رغم هذا كنا نتواصل تلفونيا" حينما يخذلنا الحضور لأنني تركت المدينة في ذلك الوقت وذهبت للعمل بولاية الخرطوم .. حتى في هذه الشهور التي قضيتها بعيدا" عنه ، كان يهب أذني فرصة الإستماع إلى صوته من وقت لآخر وكان صديقنا الآخر يقوي حبل الوصل بيننا .. إزددنا تعلقا" بثلاثتنا وأبت المشيئة إلا أن ترجعني لهما من جديد .
في خواتيم 2010م إلتحقت بالعمل بجامعة القضارف وكانت هذه فرصتي لأظل معهما مرة" أخرى .. وكان هذا ما جعلني أترك وظيفتي بالعاصمة بكل مغرياتها لأكون معهما .. ولكن الأيام أبت إلا أن تمد يدها وتبعد صديقنا الآخر بعيدا" إلى حلفا .. فصار (هو) عزائي الوحيد بعد نقله ، كان قد رُزق بمولوده الأول في ذلك الوقت وصار أبا" رائعا" لطفلٍ أروع .. فرحت لفرحه وكنت أمازحه وأقول له : (أخشى أن يسرقك إبنك منا) . وخيَّب ظني وصار أكثر تواصلا" معي .
جاءني في زواج شقيقي الأكبر وتكبد مشاق كثيرة حتى يصل قبل بداية الحفل ، وإعترتني لحظة وصوله فرحة" توازي فرحتي بزواج أخي ، فقد كان (هو) بمثابة أخي الأكبر أيضا" .. لقد حضر كثيرٌ من أصدقائي من مدينة القضارف ولكن حضوره كان يعني لي أشياء كثيره ، وكنت أرى في حضوره حضورا" لكل أصدقائي الذين تغيبو إذ ذاك ..
وكأنه بهذا الحضور كان يرد لي جميل مشاركتي له في عرسه ، وكأنه أراد أن يقول لي (قد لا أحضر عرسك) .. ولا أدرى لماذا كان يتملكني هذا الأحساس حينها ، فكل الذين حضروا كانوا يقولون لي (نجيك في عرسك) .. هو فقط الذي لم يقلها ، وحتى حينما رجعنا إلى منزلنا كان يتفحص الأشياء بطريقة غريبة كأنه كان يودعها .. أو ربما كان يوصيها بي خيرا" كحالي حينما وقفت أمام قبره ..
إزداد عندي قربا" وصار أكثر من أخ بالنسبة لي ، وصار نموذجا" للسعادة عندي . أحيانا" كانت زحمة العمل تبعدني عنه بعض الوقت ولكنه يتربع على ذات درجة الإحترام والإمتنان التي وضعتها له .. كنا نغافل الأيام ونلتقي بين الفينة والآخرى رغم إنتقاله للعمل بمدينة الشوك وحتى بعد إنجاب إبنه الثاني ..
في أواخر مايو من هذا العام إتصلت به وأخبرته عن فكرة سفري إلى سلطنة عمان وأعتذرت له عن عدم ملاقاته لوداعه ووعدته بالرجوع بعد شهر واحد من سفري .. وكانت هذه آخر مكالمة بيننا .. كان زمنها فقط ثلاث دقائق وليتها طالت كي أحتفظ بنبرات صوته أكبر حلمٍ ممكن ... ثلاث دقائق فقط كان علينا أن نطوي فيها ملف لقانا مرةً أخرى ونفتح فيها ملف العدم ... ثلاث دقائق فقط كان عليَّ أن أستغلها صامتاً وأدعه يتحدث كما يحلو لموته ... ثلاث دقائق فقط لم يخبرني فيها أنه سيتغيب عني بدون رجعة ولم يقل لي أنه صاعداً إلى السماء ... ثلاث دقائق فقط هي المهلة التي حددتها المشيئة ليقول كلانا للآخر (وداعاً) ... ولكنه لم يقل لي أنه قد لا ينتظرني بعد عودتي ولم أشتم في صوته رائحة الموتى وما كنتُ لأتصور أن شخصاً بهذا الحضورسيتغيب عني يوماً ما ، بل أنا من كانت نبرات صوته تحمل رائحة المفارق ، وحقيقةً حاولتُ جاهداً أن أخفي عنه دموعي .. تلك التي لازمتني في كل إتصالٍ أجريته لوداع شخصٍ ما قبل سفري وكأنه كان يعلم بها فقد كان يقول لي حينما حدثته عن حزني لفراق وطني : (تصل بالسلامة وترجع وتلقى وطنك منتظرك) وذهبت إلى منفاي الإختياري وحينما رجعت لم أجده ولم أجد وطني ..
كنا نراسل بعضنا البعض عبر وسائط الإتصال المختلفة .. وكان يصدِّر لي مع كل رسالة رائحة الطين والنيل والوطن ، وأكتفى أنا بدموعي على وطنٍ كنت أعرف أنني لن أجده كما تركته .. بعد عودتي للسودان محملا" بشجن الأصدقاء وحنين الأهل ، كنت أطمئن نفسي بلقيا قريبة به وكان هذا مايشدني للشرق .. كان وقتها مايزال حيا" تماما" كعشبٍ لم تعرفه أقدام الرعاة ، وكنت أدخر له شوقا" يكفى لإدهاش كل أيتام العالم و(بقجة") من الود . كان حنيني للشرق في أوجه وحنيني له متقدا" .. كنت أنوي أن أعتذر له عن ذهابي بدون وداعه وأنوي أن أحتسي معه كوب لحنٍ دافئ من تلك الأغاني التي كنا نطرب لها . في صبيحة الخميس إستيقظت على غير العادة مضطرب الأحاسيس ولا أدري لماذا .. لم أحلم بأي شيئ ليلتها مع أنني كنت شخصا" يرى كثيرا" من الأحلام في ليلةٍ واحدة .. وهذا ما صحوت مستغربا" له .. وبدأ هذا اليوم أكثر سواداً من سابق الأيام وكانت نبضات قلبي متسارعة والتوتر يكادُ يقضي عليَّ ، ولم أزل على هذه الحالة حتى رنَّ هاتفي .. كان في الجانب الآخر من الهاتف صديقي فتحي وهذا ما أخافني أكثر ، كان يبكي وصوته يكادُ يضيعُ وسط حروفه المهزومة .. لم ينبس ببنتِ شفة .. وأزدادت نبضات قلبي أكثر ويكاد التوتر يقضي عليّْ ، قلت له : ماذا هناك ؟
فقال : ثابت ....
لم أستبنْ بعدها أي شيء وأدركت حينها أنها أظلمت أكثر مما ينبغي .. فهذا يعني أن (ثابت عبد الرحيم) بكامل حياته وصحته قد مات ، وأنني لن أراهُ مجدداً ... وأنه لن يصومَ معنا رمضان المقبل ، وهذا يعني ألاَّ شيء بعده سيمضي كما كان ... وأن السعادة قد غادرتنا لتوها ..
لم أدرِ مافعلته لحظتها ولم أعِ إلا وأنا أمام أهله بالقضارف .. هذه المرة الأولى التي أحضر فيها لمنزله ولا أجده .. شخصٌ ما داخلي يكاد يسأل (ثابت وين) ، وصرت بعدها أفيقُ من صدمةٍ لصدمة ، ومن إنهزامٍ لإنهزام ، ومن خسارةٍ لأخرى ... فثابت مات وإن حاولت تكذيب ذلك ، فطالما هو ليس هنا ، فهذا يعني أنه رحل ..
كلما نظرتُ في عيني أخاه الأكبر رأيته يلوِّح لي ويبتسم .. وأكاد أراهُ في كل زاويةٍ من المنزل ، وما أظلمُ الدنيا وقتها حينما رأيت أبناءه . لم أستطع أن أخفي دموعي أمامهما .. فهما مايزالانِ صغيران ، تسآءلت في سري كيف أستطاع القدر أن يتجاهل نظراتهما البريئة وهو في طريقه لأخذ روحِ والدهم !!!!
لم أستطع أن ألحق مراسمِ تشييعه ، فألحيت عليهم أن يأخذونني إلى قبره ، فلربما لم يمت كما يزعمون أو ربما هُيئ لهم دفنه وهو مختبئٌ في مكانٍ ما ..
وحينما وصلت إلى هناك لم اتمالك حزني وفضحتني دموعي أمام إخوته .. كنت أنوي أن أقول لهم : كيف هان عليكم دفنه ، وكيف رجعتم بدون أن تأخذونه معكم ، وكيف تركتموه وحده في هذا الفراغ ، وكيف ستنامون بدونه ؟؟؟
قرأت على روحة الفاتحة وهمست له قائلاً :
(لا عليك يا صديقي ، نحن لم ندفنكَ وإنما بذرناك - فيما بذرنا من بذورٍ في أرضِ القضارف الخصبة - لتنمو لنا إنسانيةً وأنبياءً وعصافير) .
كانت المدينة حينها تقف على شفأ جرحٍ من الوطن ... وكان الوطن ساعتها يهيئ جلده لجرح جديد ، كنت وقتها خارجاً للتو من قصيدة قديمةٍ أحاول جاهداً أن ألبسها ثوب الخلود .
(هو) كان في الجانب الآخر من ذاكرة المدينة يعد نفسه لأغنية جديدة من أغاني عقد الجلاد .. رتب لنا القدر لقيا ذات لحنٍ ما .. أذكر أننا تشاجرنا في أول مرة إلتقيته فيها ، تشاجرنا في وضع تنوينٍ صغيرٍ على حرفٍ نزع عنه متعمداً (عمة) الإعراب . أنا أقول أن هنالك تنوين في نهاية الكلمة و(هو) يصر على عدم وجوده ، إكتشفت لاحقاً أنه كان على حق ، رغم خطأه ..
صرت أتردد عليه كثيراً في إحدى المكتبات التي كان يعمل بها .. يسمعني أغنية لعقد الجلاد فأطرب لها أكثر حين أسمعها معه .. سويا" كانت تذهلنا أصواتهم ، عرفت أنه (من كل حته) حينما سألته عن إسمهِ وقلت له (أنا من الجزيره) حين سألني لمن أطرب .
فرحت أيما فرح بلقائه وحمدت الله كثيرا" أن وهبه لي على حين صدفة ، كنا نحتسي (الطمباره والغناي) كلما ألتقينا على ضفةِ لحن ، أذكر أنني كنت على أعتاب التخرج من الجامعة وكان هذا مايحزنني وقتها فلطالما كنت أمني نفسي بالبقاء معه أكبرَ فرحٍ ممكن .. لهذا كنت أستغل كل الثواني المتاحة لي في تلك المدينة للقياه .. كنا نتلاقى في كل شي ولنا ذات الإهتمامات ، أنا أدمن قصائد حميد ، و(هو) يكره قصائد المرتزقة والمستشعرين .. (هو) يعشق عقد الجلاد ، وأنا أبغض أنصاف المطربين و(المغنين المطاليق) .. أنا أدَّعِي اللا شان لي بتشجيع كرة القدم ، و(هو) غارق في لونه الأحمر .. (هو) يحب القهوة ، وأنا أذوب في رائحتها .. أنا نحيف الأحلام ، و(هو) ضخم الرؤى ...صرنا بعد ذلك نتقاسم هوسنا وإنكسارنا ، يمنحني من إنتصاراته البسيطة في الحياة ما يعينني على تحمل إنهزامي .. تزداد معه اللحظات دفئا" ورونقا" ويعلو عندي قدره السامي .. عشقه اللا نهائي لناديه الأحمر كان يخبأه عندما يلقاني كي لا يجرح حيادي الرياضي ..
كنت أدرك يقينا" أنني على موعدٍ مع أشياء أجمل كان يحملها لي ، وتأكدت من يقيني هذا عندما هاتفني ذات مرة قبل أحد أعياد الأضحى بيوم واحد ، قال لي أن هنالك عُطلا" في سيارة صديقه وهما الآن في مدينة ود مدني ، كان هذا الخبر بمثابة عيدية مبكرة بالنسبة لي فهرعت إليه في الحال ، وجدت معه صديقه فقال لي (هذا صديقي فتحي) ، ولكنني سمعتها في لحظتها (هذا صديقك فتحي) ..
لم أذكر ماقلته وقتها ولكن دونت هذه اللحظة في قائمة أجمل لحظات عمري ، صديقه هذا الذي أهداهُ لي ، كان أروع شخص قابلته بعده .. أخذت كفايتي من هذا العيد المبكر وقفلت راجعا" للمنزل على أمل لقيا جديده (بهما) .. منذ تلك اللحظة إختفى الضمير الواحد وأصبحت ألتقيهما سويا" .
أذكر أنه بعد إنقضاء عطلة عيد الأضحى قاما بزيارتي في منزلنا .. ورغم قصر مدة الإقامة ، إلا أنني كنت في غاية الفرحة لأنني رافقتهم إلى ولاية القضارف برفقة شقيقه ..
لو كان الأمر بيدي حينها لتمنيت ألا نصل .. فقد كنا نسير تحت مظلة الود والوفاء والحب طوال مسافة الطريق .. وكنت أنا أقتطف من ثمار هذه الصحبة ما وسعت يداي .. ثلاثتنا كنا نهزأ من اليأس والملل متى ما التقينا ، وكنا ننام في قمة سعادتنا حينما نفترق على موعدٍ قريب ..
كنت قد تخرجت وقتها .. ولكنني أستغل كل الفرص المتاحة لي للقياهما ، في العام 2009م كان (هو) على وشك الدخول إلى حياته الزوجية .. تركت حينها كل شيئ حتى أكون رهن فرحته ، كنت أكثر سعادة" حينها وألتقيت بكل أفراد أسرته التى جاءت من مختلف مدن السودان لحضور هذا العرس الذي لطالما حلمو به .. كثير من القفشات والمواقف الجميلة إختزنتها ذاكرتي في ذلك اليوم ، في حفل العرس كان يتلألأ وسط أصدقائه وكنا نمازح بعضنا عمَّن يستطيع حمل العريس على كتفيه وتبارى أصدقائه في حمله رغم رفضه لهذا الأمر .. كنت أهمس في سري وقتها وأقول إن مساحات التلاقي بيننا ستتقلص بعد عرسه ، فقد لا يجد الوقت الكافي لنا ولها .. ولكن رغم هذا كنا نتواصل تلفونيا" حينما يخذلنا الحضور لأنني تركت المدينة في ذلك الوقت وذهبت للعمل بولاية الخرطوم .. حتى في هذه الشهور التي قضيتها بعيدا" عنه ، كان يهب أذني فرصة الإستماع إلى صوته من وقت لآخر وكان صديقنا الآخر يقوي حبل الوصل بيننا .. إزددنا تعلقا" بثلاثتنا وأبت المشيئة إلا أن ترجعني لهما من جديد .
في خواتيم 2010م إلتحقت بالعمل بجامعة القضارف وكانت هذه فرصتي لأظل معهما مرة" أخرى .. وكان هذا ما جعلني أترك وظيفتي بالعاصمة بكل مغرياتها لأكون معهما .. ولكن الأيام أبت إلا أن تمد يدها وتبعد صديقنا الآخر بعيدا" إلى حلفا .. فصار (هو) عزائي الوحيد بعد نقله ، كان قد رُزق بمولوده الأول في ذلك الوقت وصار أبا" رائعا" لطفلٍ أروع .. فرحت لفرحه وكنت أمازحه وأقول له : (أخشى أن يسرقك إبنك منا) . وخيَّب ظني وصار أكثر تواصلا" معي .
جاءني في زواج شقيقي الأكبر وتكبد مشاق كثيرة حتى يصل قبل بداية الحفل ، وإعترتني لحظة وصوله فرحة" توازي فرحتي بزواج أخي ، فقد كان (هو) بمثابة أخي الأكبر أيضا" .. لقد حضر كثيرٌ من أصدقائي من مدينة القضارف ولكن حضوره كان يعني لي أشياء كثيره ، وكنت أرى في حضوره حضورا" لكل أصدقائي الذين تغيبو إذ ذاك ..
وكأنه بهذا الحضور كان يرد لي جميل مشاركتي له في عرسه ، وكأنه أراد أن يقول لي (قد لا أحضر عرسك) .. ولا أدرى لماذا كان يتملكني هذا الأحساس حينها ، فكل الذين حضروا كانوا يقولون لي (نجيك في عرسك) .. هو فقط الذي لم يقلها ، وحتى حينما رجعنا إلى منزلنا كان يتفحص الأشياء بطريقة غريبة كأنه كان يودعها .. أو ربما كان يوصيها بي خيرا" كحالي حينما وقفت أمام قبره ..
إزداد عندي قربا" وصار أكثر من أخ بالنسبة لي ، وصار نموذجا" للسعادة عندي . أحيانا" كانت زحمة العمل تبعدني عنه بعض الوقت ولكنه يتربع على ذات درجة الإحترام والإمتنان التي وضعتها له .. كنا نغافل الأيام ونلتقي بين الفينة والآخرى رغم إنتقاله للعمل بمدينة الشوك وحتى بعد إنجاب إبنه الثاني ..
في أواخر مايو من هذا العام إتصلت به وأخبرته عن فكرة سفري إلى سلطنة عمان وأعتذرت له عن عدم ملاقاته لوداعه ووعدته بالرجوع بعد شهر واحد من سفري .. وكانت هذه آخر مكالمة بيننا .. كان زمنها فقط ثلاث دقائق وليتها طالت كي أحتفظ بنبرات صوته أكبر حلمٍ ممكن ... ثلاث دقائق فقط كان علينا أن نطوي فيها ملف لقانا مرةً أخرى ونفتح فيها ملف العدم ... ثلاث دقائق فقط كان عليَّ أن أستغلها صامتاً وأدعه يتحدث كما يحلو لموته ... ثلاث دقائق فقط لم يخبرني فيها أنه سيتغيب عني بدون رجعة ولم يقل لي أنه صاعداً إلى السماء ... ثلاث دقائق فقط هي المهلة التي حددتها المشيئة ليقول كلانا للآخر (وداعاً) ... ولكنه لم يقل لي أنه قد لا ينتظرني بعد عودتي ولم أشتم في صوته رائحة الموتى وما كنتُ لأتصور أن شخصاً بهذا الحضورسيتغيب عني يوماً ما ، بل أنا من كانت نبرات صوته تحمل رائحة المفارق ، وحقيقةً حاولتُ جاهداً أن أخفي عنه دموعي .. تلك التي لازمتني في كل إتصالٍ أجريته لوداع شخصٍ ما قبل سفري وكأنه كان يعلم بها فقد كان يقول لي حينما حدثته عن حزني لفراق وطني : (تصل بالسلامة وترجع وتلقى وطنك منتظرك) وذهبت إلى منفاي الإختياري وحينما رجعت لم أجده ولم أجد وطني ..
كنا نراسل بعضنا البعض عبر وسائط الإتصال المختلفة .. وكان يصدِّر لي مع كل رسالة رائحة الطين والنيل والوطن ، وأكتفى أنا بدموعي على وطنٍ كنت أعرف أنني لن أجده كما تركته .. بعد عودتي للسودان محملا" بشجن الأصدقاء وحنين الأهل ، كنت أطمئن نفسي بلقيا قريبة به وكان هذا مايشدني للشرق .. كان وقتها مايزال حيا" تماما" كعشبٍ لم تعرفه أقدام الرعاة ، وكنت أدخر له شوقا" يكفى لإدهاش كل أيتام العالم و(بقجة") من الود . كان حنيني للشرق في أوجه وحنيني له متقدا" .. كنت أنوي أن أعتذر له عن ذهابي بدون وداعه وأنوي أن أحتسي معه كوب لحنٍ دافئ من تلك الأغاني التي كنا نطرب لها . في صبيحة الخميس إستيقظت على غير العادة مضطرب الأحاسيس ولا أدري لماذا .. لم أحلم بأي شيئ ليلتها مع أنني كنت شخصا" يرى كثيرا" من الأحلام في ليلةٍ واحدة .. وهذا ما صحوت مستغربا" له .. وبدأ هذا اليوم أكثر سواداً من سابق الأيام وكانت نبضات قلبي متسارعة والتوتر يكادُ يقضي عليَّ ، ولم أزل على هذه الحالة حتى رنَّ هاتفي .. كان في الجانب الآخر من الهاتف صديقي فتحي وهذا ما أخافني أكثر ، كان يبكي وصوته يكادُ يضيعُ وسط حروفه المهزومة .. لم ينبس ببنتِ شفة .. وأزدادت نبضات قلبي أكثر ويكاد التوتر يقضي عليّْ ، قلت له : ماذا هناك ؟
فقال : ثابت ....
لم أستبنْ بعدها أي شيء وأدركت حينها أنها أظلمت أكثر مما ينبغي .. فهذا يعني أن (ثابت عبد الرحيم) بكامل حياته وصحته قد مات ، وأنني لن أراهُ مجدداً ... وأنه لن يصومَ معنا رمضان المقبل ، وهذا يعني ألاَّ شيء بعده سيمضي كما كان ... وأن السعادة قد غادرتنا لتوها ..
لم أدرِ مافعلته لحظتها ولم أعِ إلا وأنا أمام أهله بالقضارف .. هذه المرة الأولى التي أحضر فيها لمنزله ولا أجده .. شخصٌ ما داخلي يكاد يسأل (ثابت وين) ، وصرت بعدها أفيقُ من صدمةٍ لصدمة ، ومن إنهزامٍ لإنهزام ، ومن خسارةٍ لأخرى ... فثابت مات وإن حاولت تكذيب ذلك ، فطالما هو ليس هنا ، فهذا يعني أنه رحل ..
كلما نظرتُ في عيني أخاه الأكبر رأيته يلوِّح لي ويبتسم .. وأكاد أراهُ في كل زاويةٍ من المنزل ، وما أظلمُ الدنيا وقتها حينما رأيت أبناءه . لم أستطع أن أخفي دموعي أمامهما .. فهما مايزالانِ صغيران ، تسآءلت في سري كيف أستطاع القدر أن يتجاهل نظراتهما البريئة وهو في طريقه لأخذ روحِ والدهم !!!!
لم أستطع أن ألحق مراسمِ تشييعه ، فألحيت عليهم أن يأخذونني إلى قبره ، فلربما لم يمت كما يزعمون أو ربما هُيئ لهم دفنه وهو مختبئٌ في مكانٍ ما ..
وحينما وصلت إلى هناك لم اتمالك حزني وفضحتني دموعي أمام إخوته .. كنت أنوي أن أقول لهم : كيف هان عليكم دفنه ، وكيف رجعتم بدون أن تأخذونه معكم ، وكيف تركتموه وحده في هذا الفراغ ، وكيف ستنامون بدونه ؟؟؟
قرأت على روحة الفاتحة وهمست له قائلاً :
(لا عليك يا صديقي ، نحن لم ندفنكَ وإنما بذرناك - فيما بذرنا من بذورٍ في أرضِ القضارف الخصبة - لتنمو لنا إنسانيةً وأنبياءً وعصافير) .