لكل مدينة من مدن السودان خباياها وحكايتاها ومسمياتها الطريفة التي يتداولها سكانها فيما بينهم ، قد تبقى تلك الحكاوي والمسميات شأن داخلي يتسامر به السكان المحليين ، وربما يحملونها في حقائبهم عندما يبتعدون عنها . ولكن على كلٍ تظل هذه المعالم والأسماء جزء من معالم المدينة وملامحها التي يتذكرها الآخرون البعيدون عنها.
ومدينة القضارف كغيرها من المدن السودانية الأخرى تضج بهذه الأشياء الجميلة التي تتجمل أكثر بسكانها ذو النفوس الطيبة والأريحية التي تخجل تواضع ضيوفها.
ومن أكثر الأشياء التي يتذكرها ويتداولها الناس عن مدينة القضارف (شارع المليون غبي ) هذا الإسم المخالف تماماً لطبيعة هذا الشارع الذي يضجُ بالأذكياء كما يشير العنوان ، كيف لا وهو ملتقى كل مثقفي الولاية الذين ينهلونَ من سلاف المكتباتِ الكثيرة المرصوفة على جانبيهِ . فحينما تجول ببصرك في المَحال التي تطل ببابها عليه ، ترى ما لا يُحصى من المكتبات الثقافية و(فرَّاشة) الكتب ، و(كشك الجرايد) الذي يتوافد له كل الباحثين عن الأدبِ والرياضةِ والسياسة . ولعلَّ هذا (الكُشك) هو الذي يخلق هذا الازدحام في الطريق المؤديةِ له لأنه هو المَورد الوحيد في المدينة (لِعَطشى الصُحف).
وربما أدى هذا الإزدحام لظهورِ هذا الإسم – حسب رأي الأغلبية المُستطلعة – حيث تجد عدد من المارة يتقاطعون في خطوط مستقيمة ومنحنية في مساحةٍ صغيرةٍ جداً تكاد تئن من ثُقل آلاف الخطى للكادحين وعمال اليومية والموظفين والطلاب والمركبات العامة و(الدرداقات) و(الكوارو).
ويمتد الطريق من فندق عامر (شمال - غرب) حتى مقر السينما الوطنية قديماً (جنوب - شرق) وتوجد به خلاف المكتبات عدد من المطاعم والكافيتريات السياحية التي تمثل واجهة للولاية وبعض (البوتيكات) .
ويرجع تأريخ تأسيس المكتبات فيه إلى نهاية الخمسينيات ، ففي الصورة التالية نلاحظ طلب تصديق لإقامة أول كشك لبيع الصحف والمجلات بتأريخ 23/11/1959م من أحد مواطني الولاية وهو الأستاذ عمر البشير أحمد مؤسس مكتبة النهضة المعروفة بالقضارف الذي التقينا به في هذه العجالة .
وذكر أ. عمر البشير أحمد صاحب مكتبة النهضة
أن المكتبة أنشأت بالفعل في بداية 1960م جوار السينما الوطنية
القديمة سابقاً – أولاد أم درمان حالياً – وقام بتحويلها جوار
(كشك الجرايد) عام 1984 . وذكر لنا أن المكتبة كانت
تتعامل في ذلك الوقت مع كبرى دور النشر والمكتبات
في الوطن العربي (النهضة ، مكتبة الثقافة / بيروت) (وهبه / مصر) .
وكانت هذه المكتبة – حسب قوله – المعين العذب لكل مثقفي القضارف فكم أنجبت من أدباءٍ ونخبةٍ من أبناء الولاية الذين كانوا ومازالوا مصدر فخرٍ وإعزازٍ لهذه المدينة . وفيما يخص إسم (شارع المليون غبي) أبدى أ. عمر البشير استيائه وغضبه من هذا الإسم الذي ذكر أنه لا يصف حال الموجودين فيه لكونه يضم عدد من المكتبات مثل مكتبته (النهضة) ومكتبة دار العلوم ، مكتبة الأيام (سابقاً) ، مكتبة ابن تيمية ، مكتبة قاسم ، مكتبة المجذوب ، مكتبة ذو النون ، مكتبة المحجوب وعدد كبير من بائعي الكتب والمجلات .
وأضاف أيضاً أن هذه المكتبات كانت تمثل مراكز إشعاع فكرى للولاية وكانت بمثابة أندية أدبية يجتمع فيها كبار مثقفين المدينة .
أمَّا مدير عام السياحة بولاية القضارف الأستاذ الفاتح أحمد العبيد ، فقد ذكر – حينما سألناهُ عن مناسبة الإسم – أن إسم (شارع المليون غبي) يرجع تقريباً إلى الأستاذ والباحث بابكر محمود النور ذلك الأديب الساخر جداً ، فقد كان يرى – حسب قوله – أن بهذا (الشارع) عدد كبير من الأشخاص الذين من كثرة ازدحامهم وتجوالهم في هذه المساحة الضيقة ، تشعر بهم فاقدي الوعي وهم (يضايقو العربات في شارعا) غير آبهين بأبواقها وغير مدركين لوجهتهم بالتحديد . وبما أن جذور الأستاذ بابكر محمود النور ترجع إلى مدينة كسلا التي يوجد بها شارع مماثل من حيث الإسم وهو (شارع المليون البليد) ، فيحتمل أنه قد استجلب هذا الاسم من هناك مع إيجاد مترادف طريف (غبي) بدلاً عن (بليد) .
وحينما سألناهُ عن إمكانية تغيير الإسم في المستقبل ، أجاب أن هذا الشارع سيدخل ضمن الخرطة الموجهة للولاية وغالباً ما سيتم تغيير الإسم بعد التشاور مع بلدية القضارف لأنه سيشهد عدد من الإضافات والصيانة الجديدة ليصبح واجهة للولاية في الفترة القادمة .
وبدأ الأستاذ الفاتح أحمد العبيد متفائلاً بدخول أمانة السياحة ضمن المجلس الأعلى للثقافة ، حيث تم تعديل الاسم ليصبح المجلس الأعلى للثقافة والفكر والإعلام والسياحة .. وهذا قد يتيح لنا – حسب قوله – إطلاق أسماء رموز الولاية على عدد من الشوارع والمحطات المهمة .
كما يوجد هنالك عدد من الذين يرفضون هذا الإسم بشدة باعتباره لا يمثل هذه المدينة ولا سكانها ، ويقترحون أسماء جديدة لهذا الشارع .
صاحب أستوديو الشريف - من أقدم الاستوديوهات التي توجد في ذلك الشارع – أقترح تسميته (شارع خليل عجب الدور) تيمناً بذلك الشاعر الذي أسهم في الحركة الشعرية والثقافية بالقضارف والذي كان من مرتادي هذا الطريق .
واقترح الأستاذ يوسف يعقوب مدير عام وزارة الزراعة بالإقليم الشرقي (سابقاً) في عهد نميري والأستاذ بكلية العلوم الزراعية والبيئية - جامعة القضارف ، أقترح تسميته (شارع سَعَد) باعتباره من مؤسسي هذه المدينة التي أصبحت تسمى به (قضروف سعد) .
أما الأستاذ الأديب عثمان البدوي فقد اقترح (رفع) نقطة (الباء) وتحويلها إلى (نون) لتصبح الكلمة (غني) بدلاً من (غبي) ويصبح إسم الشارع (شارع المليون غني) تعبيراً عن أولئك الأغنياء بفكرهم وفضيلتهم وعفتهم وكرمهم والذين يتجولون في هذا الطريق أغنياءَ النفسِ والروحِ .
واقترح الإعلامي محي الدين محمد محي الدين تسميته (شارع عبد الله رجب) الكاتب الصحفي المعروف إبن هذه الولاية أو (شارع الريفي) الأستاذ محمد الخليفه طه الريفي الصحفي المميز والعصامي أيضاً ، طالما يوجد عدد من المكتبات وأماكن بيع الصحف بهذا الشارع – حسب قوله .
وتمنى الأستاذ عبد الماجد محمد السيد أمين أمانة الإعلام بالمؤتمر الوطني ، تمنى أن يسمى (شارع النهضة) ليبقى نواةً للنهضة الفكرية والثقافية بالولاية .
على كلٍ هذا الإسم مازال حتى الآن معلماً من معالم المدينة ، ولكنه لا يشبه هذه البقعة الوادعة المستنيرة التي أنجبت رموزاً تركوا بصمتهم (القضارفية) على خارطة هذا الوطن في مختلف المجالات وما زال رحمها ينجب مفكرينَ وأدباء وسياسيين سينهضون بإذن الله بهذه المدينة لتصبح في الصفوف الأمامية لحركة التقدم والتطور الثقافي .
خروج:
شكراً جزيلاً
يا شوارع من سحاب
مرصوفه بي عزم المساكين السُمُر
محفوفه دهشه وإنبهار
مرسومه في الشريان وريد
منحوته في ضلمة
سنين عُمري النهار
شكراً جزيلاً
يا قضارفي الحلوه شكراً
عِشتَّ فيك أحلي العُمُر .