الهَمْبَاتة - الهمباته في السودان
الهمبتة» ظاهرة اجتماعية على غرار ظاهرة « الشعراء الصعاليك»
التي عرفتها جزيرة العرب قبل الاسلام، انتشرت في السودان خلال
العهود الاستعمارية التركية والانجليزية، وقد جاءت في أعقاب الحروب
التي كانت تنشب بين القبائل أواخر عهود السلطنة الزرقاء، اثر ضعف
هيبتها، بسبب تنازع الامراء الفونج على العرش وتسلط الوزراء من
قبائل الهمج على زمام الحكم.
وبسبب تردي المجتمع في الجهل بالدين ومن ثم ضعف الواعز الديني..
وقد انحسرت هذه الظاهرة بعد استقلال السودان، وانتهت الآن تماما
الا من بعض الحوادث الفردية في اقاصي بوادي غرب السودان..
وخلفت ارثا ادبيا فريدا.
انتشرت لثلاثة قرون واندثرت عند الاستقلال..
(الهَمْبَاتة) شعراء السودان الصعاليك
- عدم الاعتراف للشاب ببلوغ قدر الرجال إذا لم يمارس «الهمبتة»!!
- المروءة والنجدة والشهامة من أخص خصائص «الهمباتة»!!
- «الهمباتي» لا ينهب من قبيلته ويرعى حقوق الجار والعشير!!
- لا ينهبون ابل المرأة واليتيم والفقير.. والغني الكريم!!
- الوفاء للرفيق من أميز صفات «الهمباتة» ويفدونه بالأموال والأرواح
- العُملا يُسوِّقون الابل المنهوبة و«يُشَهِلون» الهمباتة عند الحاجة.
::::::::::::
«الهمبتة» ظاهرة اجتماعية على غرار ظاهرة « الشعراء الصعاليك»
التي عرفتها جزيرة العرب قبل الاسلام، انتشرت في السودان خلال
العهود الاستعمارية التركية والانجليزية، وقد جاءت في أعقاب
الحروب التي كانت تنشب بين القبائل أواخر عهود السلطنة الزرقاء،
اثر ضعف هيبتها، بسبب تنازع الامراء الفونج على العرش وتسلط
الوزراء من قبائل الهمج على زمام الحكم. وبسبب تردي المجتمع
في الجهل بالدين ومن ثم ضعف الواعز الديني..
وقد انحسرت هذه الظاهرة بعد استقلال السودان، وانتهت الآن تماما
الا من بعض الحوادث الفردية في اقاصي بوادي غرب السودان..
وخلفت ارثا ادبيا فريدا.
و«الهمبتة» وهي تعنى «نهب وسلب الابل» كانت تعتبر من ارفع
ضروب الفروسية، وكانت حياة «الهمباتة» على غرار حياة اسلافهم
من «الشعراء الصعاليك» في الجاهلية عروة بن الورد والسليك
بن سلكه واضرابهم مع اختلاف جوهري رئيسي هو ان غالبية
اسلافهم كانوا لا يتورعون عن سلب الضعفاء والحريم بل وسبيهم
واسترقاقهم، فيما يتصف «الهمباتي» بصفات الفارس النبيل الكريم،
كما ان اسلافهم كانوا «خلعاء» لفظتهم قبائلهم، بينما «الهمباتي»
محل تقدير وافتخار قبيلته واحترام المجتمع، لأن المروءة والنجدة
والشهامة والكرم كانت من أخص خصائص «الهمباتي» اذ انهم
مغامرون شجعان، لا يهابون الردى والمخاطر، ويواجهون الأهوال،
ويتحملون المشاق، يحفظون القبيلة، ويرعون حق الجار والعشير،
ولا يسلبون الضعفاء.
وقد استأثرت هذه الظاهرة باهتمام الباحثين في العلوم الاجتماعية
والثقافية، اذ انها انتجت شعرا شعبيا ظلت المجالس تسمر به
وبحكاويهم في البوادي حتى الآن.
ومن ابرز من تناول هذا الموضوع الباحث الاستاذ الطيب محمد الطيب،
الا ان الاكاديمي الدكتور شرف الدين الامين عبدالسلام رئيس شعبة
الفلكلور بمعهد الدراسات الافريقية والاسيوية بجامعة الخرطوم
(رحمه الله) ، وحده الذي اوفاها حقها من البحث والتنقيب والتمحيص،
حيث جاب البوادي في شرق ووسط السودان ، دارسا ومنقبا،
واستقى معلوماته من منابعها الاصلية في الاطراف القصية
للبوادي، من افواه المشتغلين بها انفسهم، والمتصلين بهم
اتصالا مباشرا، ومن الذين شهدوا احداثها وعاصروا فرسانها، حيث
شملت زياراته منطقة الجعيلين في بادية البطانة في شرق النيل،
ومنطقة الكواهلة في البطانة بين نهري الدندر والرهد، ومنطقة
قبيلة حمر في بادية كردفان في غرب السودان.
واستعان الباحث باشعار« الهمباتة» في التعرف على مختلف جوانب
حياتهم، ونحن نستعرض هنا بعجالة هذا البحث التراثي الشيق:
أصلها ونشأتها:
«الهمبتة» تعني نهب وسلب الابل دون سواها!! و«الهمباتة» هم
الرجال الذين يمارسون نهب الابل، ومفردهم «همباتي» واللفظ
من لهجة عرب غرب السودان، ويرادفه لفظ «مهاجرا» ومفرده
«مهاجري» ولفظ «النهيض» و«النهاض» و مفرده «نهاض» في
بادية البطانة في وسط السودان، ولفظ «سراجه» ومفرده
«سراجي» في بادية كردفان.
وعن أصل الهمبتة ونشأتها يقول الباحث ان بدايتها كانت في اواخر
عهد السلطنة الزرقاء وما بعدها في القرن الماضي اثر ضعف
السلطة المركزية، وضعف الواعز الديني نتيجة للجهل الذي ضرب
اطنابه على المجتمع السوداني من جراء سياسة التجهيل التي
طبقها الحكم التركي، حيث راحت القبائل تغير على بعضها تسلب
وتنهب، وكان هذا العهد يسمى عهد «القيمان» وبعد سقوط
السلطنة الاسلامية الزرقاء على يد الاتراك العثمانيين وقيام سلطة
مركزية انحسرت ظاهرة القيمان وتقلصت واصبحت تتم بعدد من
الرجال يتراوح بين المئة والمئتين، وكانوا يسمون «النهاض»
وفي عهد الحكم الثنائي الانجليزي المصري مطلع القرن الماضي
توصلت ولكن بعدد قليل من الرجال يتراوح بين الاثنين والثمانية،
وبعد الاستقلال من الاستعمار واستقرار الغالبية من العرب الرحل
وانتشار الوعي الديني والتعليم اندثرت هذه الظاهرة الا من بعض
الحوادث الفردية في اقاصي البوادي السودانية.
دوافع الهمبتة
عاش العرب في السودان منذ ما قبل تصدع الاخدود الافريقي
الاسيوي العظيم عندما كانت اسيا وافريقيا قارة واحدة، ينداحون
في الارض، فلا تحدهم الا الجبال بين الفرس والترك والبحر الابيض
المتوسط غربا وعندما استشرى الجفاف والتصحر في شبه
الجزيرة العربية، راحوا يهاجرون الى وديان الانهار في العراق
والشام ومصر والسودان، وظلت الهجرات العربية تتواصل الى
السودان، وكانت اخرها هجرة حمير قبل الاسلام بخمسة قرون.
الامر الذي يؤكد ان الوجود العربي في السودان لم يكن امرا طارئا،
وواضح ان العرب لم يعيشوا في المنطقة الاستوائية من السودان
بل استوطنوا شرقه ووسطه وشماله وغربه. وعندما وفد العرب
الى السودان بعد الاسلام عاشوا فيه كما كانوا يعيشون في جزيرتهم،
وظلت حياة الترحال وراء الماء والكلأ هي ديدنهم وحمدا لله ان الباحث
قد استرشد باشعارهم، وهي «عربية فصيحة» فلينظر الاقحاح من
العربان في نسبتها الى جذورها في احرف لسانهم السبعة.
وقد توارث العرب في السودان الالتزام بقيم القبيلة وتقاليدها واعرافها
ومعاييرها الجماعية، وكما قلنا فان تفشي الجهل اواخر السلطنة
الزرقاء وسياسة التجهيل التي طبقها الغزاة الاتراك والانجليز، وضعف
الواعز الديني الناجم عن الجهل بالدين «الهمبتة» مكان الاعتزاز
والفخر، ودليل على الشجاعة والبسالة والاقدام والنبل والكرم
الفياض، وهي تكسب صاحبها تقدير واحترام القبيلة والمجتمع،
حتى ان بعض القبائل لم تكن لتعترف للشباب ببلوغ قدر الرجال اذا
لم يمارس الهمبتة، وكانت القبائل تتفاخر بهم، وتحتفل بهم حين
يعودون بعد رحلة موفقة، ذلك انهم يشركون في كسبهم كل
محتاج في القبيلة من الأيتام والأرامل والمسنين والفقراء،
كما ان الهمبتة كانت تكسب الرجل اعجاب الغواني..
فالرجل الصنديد «الولد» الذي يخاف ان تكومه القبيلة وتعيره بالخوف،
عليه ان يمتطي «يخلف ساقيه» جملا فحلا« تيسا» رقيق الفم
«قدومو» فاما ان يأتي بمال يرضي الظبية «البهم» ذات الرضاب
الذي يقطر عسلا« لهيجو مسكر» او ان تثكله نساؤه يحثو الرماد
على رؤوسهن «وهي عادة كانت سائدة في السودان عند موت
عزيز حيث تملأ الاقداح بالرماد، وتحثوه الباكيات على رؤوسهن.
ان الباسل الذي يريد «بدور» ان يحظى بشكر القبيلة عليه ان يركب
ويتوغل «يتوكر» في بلد العدو، فاما ان اتى «جاب» بما يرضي
الظبية ذات الرضاب المطعم بالسكر، او قضى وتبخترت الصقور
الصلعاء فوق جثته وصوتت «اب صلعة تيتل وكركر»!!
وواضح ان المرأة زوجة وبنتا واختا وأما وخليلة في حالة حضور دائم في
وجدان «الهمباتي» بل هي سبب رئيسي لاقتحام المخاطر وركوب
الصعاب، اذ هي الواحة التي يعود اليها «الهمباتي» من حياة المخاطر،
فتنسيه كل ما عانى من أهوال قاتلة ومشاق مرهقة، وفي كل
اشعارهم يتضح كمون المرأة في وجدانهم، ووراء مجازفتهم
بانفسهم من اجل اكتساب ودها!!
مجتمع الهمباتة
يتكون مجتمع الهمباتة من فئتين: الهمباتة الذين يقومون بنهب الابل
و«العملا» الذين يقومون ببيع الابل المنهوبة.. ومن أشهر الهمباتة
«الذين تتردد اسماؤهم الطيب عبدالقادر سليمان المعروف باسم
«ودضحوية» من قبيلة الجعليين، ورفيقه طه محمد ابو زيد
البطحاني المعروف باسم «طه الضرير» ومن نفس القبيلتين
الصديق ود عثمان ود التركاوي «اب ترمة» وعلي احمد علي،
و«كيقة» ودعمران والخضر ودفكاك، وعثمان ود علي «ترتر»
ومدني محمد عويضة والعطا ود حليلات ومن الكواهلة وقبائل
كردفان محمود ود آدم، عبدالله ود المقدم، شرف ود المجرب،
محمد ود عايس، ابو حبيب ابو زيد، حامد امبده، عبدالله حريكه،
عوض الكريم محمد ابراهيم، موسى ودكوكو، وغيرهم كثيرون.
العملا
كانت قبيلتا العليقات والعبابدة اشهر تجار الابل حيث كانوا يبيعونها
في مصر.. وتتألف فئة العملا غالبا من اشخاص كانوا همباته، ثم
تركوها لاي سبب من الاسباب، وهم الى جانب بيع الابل المنهوبة
يقومون بمساعدة الهمباتة بتقديم القروض لهم اذا ما اصبح احدهم
خالي الوفاض، ويقومون بتجهيزهم «تشهيلهم» وكانت بوادي
السودان تزخر بهم مثلما تعج بالهمباتة، وهم معروفون بالاسم
في كل قبيلة وكل منطقة، وقد كان من اشهرهم في شرق
السودان عواد، ادريس ود علي، علي جبريل، محمد هدل،
ومن قبيلة الكواهلة «محمود ود ادم، احمد ود المليح
ومن الجعليين في الشمال: احمد ود عوض السيد، احمد عوض
الكريم «ودضيقة» حاج علي ود طه، دوشان، وابو جارندة في
منطقة جبل دود غربي سنار، وفي غرب السودان جريجير من
عرب القريات وقنفود وعيد من الكبابيش.
ولم يكن عمل العملا قاصرا على الرجال بل ان «ستات المجالس»
ممن احترفن صنع الخمر وتهيئة مجالس اللهو من الجواري اللائي
نلن حريتهن بعد الغاء الرق في السودان، كن يقمن ببيع الابل
المنهوبة كما يقمن باقراض الهمباتي المال الذي يحتاجه..
يقول ود ضحوية:-
الدرب البجيب كمش النقود موهين
وما بمشيهو ديك بيتو اب جليدا لين
الولد البيقوم من أم حمد متدين
غصبا عنويا الساحر يسوقن بين
يخاطب جمله الساحر قائلا ان الطريق الذي يجيء بالنقود الكثيرة
«يجيب كمش النقود» ليس هينا ولا سهلا، ولا يمشي فيه من
يلازم بيته مثل الديك صاحب الجلد اللين الناعم.. ولكن الصنديد
الذي يقوم بعد ان يستدين من الغانية «ام حمد» فلا بد له ايها
الساحر من ان يسوق الابل واقتدارا عيانا بيانا.. ويقول اخر مخاطبا
ناقته: -
الليلة ام هلال امست سراتك تارة
واسايدك سواويق لي الردوف والداره
ان بردن نكافيبن سوالف السارة
وان حرن صناديدا نقابل الحاره
فهو يقول لناقته «ام هلال» ان سنامك «سراتك» قد رجعت للوراء
«ترت» من طول الركوب، وان أسيادك يعرفون قود «سواويق»
الابل ممتلئة الارداف، وتلك الحبلى «الداره» فاذا ما خلصن
«بردن» نكافئ بهن افضال وديون «سوالف» الغانية المسماة
«السارة» اما اذا تطلب الامر القتال فاننا صناديد في المعارك
الحارة.
السالف
والسالف هو ابرز صور التعاون بين الهمباتة، وهو يتمثل في واجب
الهمباتي نحو زميله اذا كان في موقف يحتاج فيه الى المساعدة،
فهو واجب وليس دينا يرد، فما ان يحتاج الهمباتي الى المساعدة
فانه يلجأ الى الهمباتة في المنطقة لمساعدته حتى دون سابق
علاقة او معرفة، ومن يتقاعس عن اداء هذا الواجب يعتبر خارجا
على «السوالف» وتسوء سمعته، ويحجم الجميع عن التعامل
معه او تقديم العون له في وقت الحاجة.
مراحل الهمبتة:
وتتم عملية الهمبتة عبر عدة مراحل تبدأ بتجمع الاسباب والدوافع،
ثم تحديد الهدف، ومكانه، ومعرفة الطريق اليه، ثم تأتي مرحلة
بلوغ الهدف واختيار الابل التي تتسم بدلائل القوة والقدرة على
التحمل والسير لمسافات طويلة، وتنتهي ببيع الإبل وانفاق المال
الوفير الذي تدره في اعانة المحتاجين والمساكين، ومساعدة
«رفاق الفرده» ثم الانصراف الى «ستات المجال» لشرب الخمر
واللهو مع الغواني الحسان. «وستات المجالس» هن من الرقيق
اللائي نلن حريتهن بعد الغاء تجارة الرقيق في بداية هذا القرن،
ولكن يَسكُنَّ في اطراف المدن والقرى ويتكسبن بصنع الخمر والبغاء.
وتحكم مجتمع الهمباتة قيم حميدة منها ماهو خاص بمجتمعهم، ومنها
ما هو شائع في المجتمع العربي البدوي عامة .. ومما هو خاص
بمجتمعهم اضافة الى حق «السالف» المكفول لكل رفيق:
حقوق الرفقة:
وللمرافقة في مجتمع الهمباتة قوانين تحكمها وقواعد تنظمها وقيم
تستند عليها ومعتقدات تدفعهم الى الالتزام بحقوقها .. واول ما
يحكم «الرفقة» ان الهمباتة قبل ان يبدأوا رحلتهم يتعاهدون
«الخاين الله يخونو» ويقرأون الفاتحة، وهم يعتقدون ان من يخون
«الرفقة» يلحقه الضرر في نفسه وذريته وماله، ويقولون «خون كل
شيء الا الغُردَه» والغرده هي الحزام الذي يربط السرج على ظهر
الدابة، وهي كناية عن رفيق الهمبتة .. وقد ادى هذا الاعتقاد الى
تمكن هذه الخاصية في نفوسهم والتزامهم بها، فاصبح الوفاء للرفيق
من اميز صفاتهم، وهو يصل الى حد الذود عنه بالروح والمال،
والرفيق دائما هو موضع الحفاوة والاكرام والاحترام، وما وقع في
مشكلة الا وتعاطف معه الآخرون، وسعوا بكل مايملكون لتخليصه
من مشكلته، واذاحدث ماحمل الرفيق على الغياب عن اهل بيته
قام الرفاق بمعاونتهم وبرعايتهم وحمايتهم وتوفير كافة احتياجاتهم
ومعاودتهم.
وقد استخلص الباحث من اشعارهم عدة اشكال من صور الوفاء
للرفيق تعبرعن شعور عميق بالتعاطف حين يقع احدهم في قبضة
القانون ويزج به في السجن .. سمع «ود ضحوية» ان رفيقه
«طه الضرير» قد حكم عليه بالسجن فقال: -
الليله النّفس أمسَت حزينة وعامدة
وما بَتْسلّى بي بُرقُع حميده وحامدة
فارْقَنا أبان قلوبا جامدة
ناس طه اللّحو ضو القبيله الخامدة
يقول ان نفسه امست حزينة ومنقبضة ولاتسليه مجالسه الغيد
الحسان ولابراقع «حميدة وحامدة» بعد ان فارق رفاقه «الرباعة»
اصحاب القلوب الشجاعة، وخاصة «طه» الذي يشبه الاسد
«اللحو» ضوء القبيلة التي تخمد نارها.
ويقف الهمباتي الى جانب رفيقه عند القبض عليه، ويبذل كل مافي
وسعه لتخليصه من ورطته: -
الخبر البيجي الصديق مقفل جوه
حالف مابقيق دونو ان بقيت في هوه!!
فقد ورد خبر بأن رفيقه «الصديق» ود التركاوي قد سجن فاقسم
الا يكف عن السعي لخلاصه حتى قاده ذلك الى هاوية.
ومن صور الوفاء للرفيق عندهم ان احدهم اذا قبض عليه بجريمة
سرقة الابل فانه يتحمل وحده العبء ولايذكرشركائه او يقر باسمائهم،
وبالمقابل فإن شركاءه يسعون بكل السبل لتخليصه، واذا اخفقت
محاولاتهم فانهم يتكلفون باعالة اسرته طوال مدة بقائه في السجن.
ـ قواعد الهمبتة:
وتقوم الهمبتة على قواعد يتحتم على «الهمباتي» مراعاتها والا
فهو لايعد في عداد «الهمباتة» ويكون محتقرا .. واول هذه القواعد:-
ـ الابل فقط:
ان الهمباتي لا يقرب الا الابل فقط دون غيرها من المواشي او الاموال،
كقاعدة اساسية تميز بين الهمباتي واللص.
ما بتدبى لي عنز الفطيم والشاي
بعرف سوق بكارا دلتن داداي فمن العيب ان يدب متلصصا ليسرق
المعزى التي تحلب للطفل الرضيع وللشاي وهو يعرف فقط سوق
النياق على اصوات الحداء «الداداى» ذلك ان نهب الابل في عرفهم
عزة وفخر ويجلب تقدير وثناء القبيلة كمايجلب اعجاب الغواني ..
ونهب غير الابل فيه ضيعة وصغار ويجلب الذم والاحتقار ..
ويرجع الباحث ذلك الى ان الابل هي اثمن ثروات البدو، العائد منها
لايقاس بالعائد من غيرها كالبقر والضأن، وهناك الجانب الاجتماعي
حيث تقاس ثروة الرجل بمايملك من ابل تحدد مكانته في السلم
الاجتماعي، وفوق هذا وذاك فإن الابل قادرة على السير لمسافات
بعيدة لايدركهااصحابها الذين يقتفون اثرها(الفزع).
ويحكى عن «السريري» وهو احد همباتة الكواهلة انه مر بقرية بها
مناسبة زواج، فطلب من رفيقه ان ينتظر زفة العريس «السيرة»
لرؤية الفتيات الجميلات «والعرضة فوقهن» وعندما جاءت الزفة
حمل السريري بندقيته وبقي رفيقه عند الجمال مصوبا سلاحه
الناري، واطلق السديري عيارا ناريا من بندقيته ووضع فيها ظرفا
آخر، وطلب من الرجال ان يقفوا على جانب ففعلوا مرغمين،
افراح يسلب النساء حليهن الذهبية والفضية من عقود وأساور
واقراط وخواتم، ثم طلب من رفيقه ان يحضر «الفروج» فاحضرها
وفرشها، فطرح فيها السديري الحلى، وقال للنساء: يابنات العم
اردت ان تعرفن انكن كنتن تغنين لنساء مثلكن لا يقدرن على حمايتكن ..
انا لا اريد حليكن فلتأخذ كل منكن حليها.
ـ العلانية:
ان الهمباتي لا يأتي متلصصا في الخفاء، وانما يحصل على غنيمته
جهارا نهارا وعنوة واقتدارا.
والهمباتة يعزفون عن الابل «الهاملة» ولا يسلبون الا الابل المحمية:
الزول البدور من البوادي ضريبة
يبقى موارك الغربه ويبعد الريبة
ما بتدبى لي الهاملة البشوفا غريبة
الا السيدا في الدندر مسيلها زريبه.
فالشحص الذي يريد من البوادي فرصة عليه ان يداوم «يوارك» على
الغربة ويبعد ريبته عن القبيلة والجار والعشير، انه لا يتلصص ويسرق
الناقة الهاملة التي يراها غريبة ولا ينهب الا الابل المحمية التي
اقام لها اصحابها الحظائر في بادية الدندر.
ـ البعد:
ان الهمباتي لا ينهب من قبيلته ولا من الجار والعشير: -
الولد البدور الشكره يابى الشينه
يبعد ردو غادى .. ينطح بوادي جهينة
اما نجيب فلوسا تبسط الراجينا
ولا أم روبة لاحولين تكوفتو علينا
فمن يريد ان يشكر ويأبى الفعل الشائن عليه ان يوغل في البعد ويقارع
الابطال من جهينه في بواديهم بغرب وشرق السودان فاما ان يأتي
بمال يفرح الحبيبة التي تنتظر عودته «نبسط الراجينا» او ان ذات
الشعر الغزير الطويل «ام روبه» تحد عليه لمدة حولين فلا تضفر
شعرها ضفائر ناعمة وانما تضفره ضفائر غليظة «كوفات» ولا
تطيبه لمدة عامين.
وهم وراء الابل الاصيلة اينما كانت، يقول طه ودأب زيد: -
ابوك يا الزينة عكاهن قبض في روسن
الهوج والشرق فوق العواتي بكوسن
يقول لابنته «الزينة» ان أباك كم استولى على الإبل وقاده وانه يجوب
الغرب «الهوج» والشرق بحثا عنهن «بكوسن» .. وقد وردت في
اشعار ود ضحوية وطه الضرير واضرابهما من وسط السودان اسماء
مناطق في الشرق والحدود الحبشية والبحر الاحمر وفي الشمال
عند الحدود المصرية: -
كم عتمر تبن فوق قجة العبادي
وكم غوصتلن من الدنادر غادى
فكم من ابل قادها عبر صحراء العتمور في الشمال وهو يمتطي جمله
المنسوب لقبيلة العبابدة اصحاب الابل الجيدة، وكم ابعد وتوغل
«غوص لهن» في البحث عن ابل الى ابعد من نهر الدندر عند
ا لحدود الحبشية.
ـ حق الجار:
ان مراعاة حق الجار من ابرز القيم العربية وارسخها جذورا، اذ هي
متأصلة في طباعهم منذ جاهليتهم، وهي من اوجب واجبات الهمباتي
وكما اوضحنا فانهم يبعدون عن مضاربهم وجيرانهم ويتوغلون في البعد
رعاية لحق الجار.
ببعد ردى مابتدبى اخوان الجار
وبحرت كفى في اليوم أب لطاما حار
فهو يبعد من جيرانه ولا يدب متلصصا ويخون جاره، وانما «يحرت كفه»
في يوم العار اللطام حتى تخلص له الابل.
ـ الشجاعة:
ان الهمباتة هم رجال صناديد يتمتعون بصفات نفسية وجسدية تهيئهم
لهذه الحياة الخطرة التي يجابهون فيها الموت والمخاطر والاهوال
والصعاب ويتميزون بقدرة فائقة على تحمل المشاق .. ذلك ان
الشجاعة هي اوضح سمات الهمباتى، لان طبيعة الهمبتة تجعله
في حالة خطر دائم من جراء نهب الابل حيث ان اصحاب الابل
المنهوبة «يفزعونها» سعيا لارجاعها ، ويطاردون الهمباتة وتقع
بينهم معارك بالاسلحة التقليدية والنارية .. يقول ود ضحوية: -
الناس أل على «الساحر» بيشقوا الصى
أمسو الليلة فوق راياً نجيض مانى
ناس أب تَرمَه جاموس النحاس أب دى
عقدوا الشوره ميعادهم جبال كربى
ان الاشخاص الذين يشقون الفيافي على مثل جملة «الساحر» امسوا
وقد عقدوا العزم على رأى ناضج «نجيض» وليس نيئا. وشبه جسارة
« رفيقه «الصديق ود التركاوى» الملقب بأب ترمه أي «ذي السن
المكسورة» بجسارة الثور الوحشي عندما تدوي طبول الحرب
«النحاس أب دى» وقال انهم قد عقدوا رأيهم على اغارة جبال
كربي البعيدة.
فيوما في نعيم وبهجة وسرور مع الحبيبة التي تجعل نومه متقطعا،
ويما يستترون بثباتهم من لفح رياح السموم .
وهم: يوم جالسين مع الحزم القُصار مربوعه
ويوم ماسكين نقيب صايدانا عطشه وجوعه
فهم يوما في سعادة مع حبيباتهم مربوعات القوام، ويوما يسيرون
على طريق طويل وسط الاحراش فريسة للعطش والجوع ..
فهو يقضي يوما على ظهر جمله يكربت به «والكربتة ضرب من
جري الابل» ويوما يتعشى بالربيت «وهو الشحم الذي استخرج منه
الودك يقليه بالنار» ويوما يتعاطى التمباك «التابا» ويبيت عليه الطوى،
فاما ان اتي بمال يفرح الحبيبة ذات السوميت «الخرز» او ان تنطرح
جثته قتيلا في جبال سقدى ولم يعد.
ـ أنفة:
والهمباتة يعشقون حياة المخاطر ويحتقرون حياة الدعة يقول ود ضحوية: -
انا مانى التنبل أل في البيت صناعتي حليب
بدور الشدة فوق ابل شوافي ونيب
فهو ليس البليد الكسلان الذي يقيم بالبيت يحلب اللبن، انه يريد «بدور»
الركوب على إبل قوية نبتت انيابها ... وهم يأنفون من حياة الزراعة ..
وكان والد ود ضحوية قد اصر عليه ان يترك حياة الهمبتة والبقاء في
القرية.
انه لو لا ما هو مقسوم له ومقدر عليه لايهتم ولا يبالي «ما خسانا»
بزراعة الوادي الصغير المسمى ودى مسعود، والديفة هي الظبية
البكرة والوضيب الشعر الذي شبهه لطوله بالرسن «يقود» ويقول
احد همباتة حمر:
البكره العليها الطقة والطباعة
انا بعيش فيها سيبك من هموم وزراعة
ان هدفه هو الناقة الموسومة فهي حياته، ويقول لحبيبته دعيني
من الهموم ومن الزراعة.
والهمباتة في مواجهة المخاطر يعتمدون على اسحلتهم ..
يقول ود ضحوية:
كم فزعا خمدنا بيضة سنو
ياريت السيوف كان تحكى بي الفاعلنو
والفزع هم أهل الابل الذين يطاردون الهمباتة، يقول انهم قد اخمدوا
بياض اسنانهم بأن جعلوهم يعودون بدونها خاسئين ويتمنى أنه لو
كانت السيوف تتحدث لاخبرت بافعالهم .. وهم في سبيل الإبل
لايرهبون القيود والسجون.
ـ المروءة:
ان الهمباتة يتصفون بالمروءة والنجدة والشهامة، ومثلما تحلو لهم
مجابهة المخاطر من اجل المال، يحلو لهم انفاقه في اعانة
المحتاجين، ومساعدة المساكين، وحل مشاكل اقاربهم ومعارفهم،
وقبل هؤلاء جميعا «اخوان الفردة» رفاق الحاره ..
يقول ود صحوية:
عند طرش الدرق ما بنسى شرط الخوه
كباس لي الدهم عند البيقول يا مروه
فحين البأس وقراع السيوف للدرق لا ينسى واجبه تجاه رفاقه،
وهو يندفع في الليل لنجدة من يطلب النجدة وينادى «يا أبو مروة».
ومن مروءتهم انهم لا ينهبون ابل الفقراء من الناس الذين يعتمدون
عليها في معيشتهم وترحالهم .. ولا ينهبون ابل اليتيم حتى لا
يزيدون احزانه .. ولاينهبون ابل امرأة مهما كانت كثيرة ..
ولا يتعرضون لاصحاب الابل المشهود لهم بالكرم ومساعدة
المحتاجين والمساكين.
ان هدفهم دائما وأبدا هم الاغنياء من اصحاب الابل الذين لايعينون
المحتاج ولا يساعدون المسكين.
ـ الكرم:
ان الكرم من ابرز القيم العربية، وهو من اخص خصائص الهمباتة فهم
كما قلنا يعينون المحتاجين ويساعدون الفقراء والمساكين، وقد يصرفون
كل مايصل الى أيديهم من مال في هذا السبيل، وخاصة للرفاق: -
ان بردن نقود مانى البخيل صريت
وان حرن بكار ماهن صفايح زيت
ان الغنيمة اذااصبحت باردة في شكل نقود فإنه لا يصرها ويبخل بها،
اما اذا تطلب الموقف القتال فهو يقاتل من اجل بكرات تستحق الموت
وليس من اجل صفايح زيت.
::::::::::::::::::::::::::::
المصدر : مدونة
زهير شرف الدين الامين
الهمبتة» ظاهرة اجتماعية على غرار ظاهرة « الشعراء الصعاليك»
التي عرفتها جزيرة العرب قبل الاسلام، انتشرت في السودان خلال
العهود الاستعمارية التركية والانجليزية، وقد جاءت في أعقاب الحروب
التي كانت تنشب بين القبائل أواخر عهود السلطنة الزرقاء، اثر ضعف
هيبتها، بسبب تنازع الامراء الفونج على العرش وتسلط الوزراء من
قبائل الهمج على زمام الحكم.
وبسبب تردي المجتمع في الجهل بالدين ومن ثم ضعف الواعز الديني..
وقد انحسرت هذه الظاهرة بعد استقلال السودان، وانتهت الآن تماما
الا من بعض الحوادث الفردية في اقاصي بوادي غرب السودان..
وخلفت ارثا ادبيا فريدا.
انتشرت لثلاثة قرون واندثرت عند الاستقلال..
(الهَمْبَاتة) شعراء السودان الصعاليك
- عدم الاعتراف للشاب ببلوغ قدر الرجال إذا لم يمارس «الهمبتة»!!
- المروءة والنجدة والشهامة من أخص خصائص «الهمباتة»!!
- «الهمباتي» لا ينهب من قبيلته ويرعى حقوق الجار والعشير!!
- لا ينهبون ابل المرأة واليتيم والفقير.. والغني الكريم!!
- الوفاء للرفيق من أميز صفات «الهمباتة» ويفدونه بالأموال والأرواح
- العُملا يُسوِّقون الابل المنهوبة و«يُشَهِلون» الهمباتة عند الحاجة.
::::::::::::
«الهمبتة» ظاهرة اجتماعية على غرار ظاهرة « الشعراء الصعاليك»
التي عرفتها جزيرة العرب قبل الاسلام، انتشرت في السودان خلال
العهود الاستعمارية التركية والانجليزية، وقد جاءت في أعقاب
الحروب التي كانت تنشب بين القبائل أواخر عهود السلطنة الزرقاء،
اثر ضعف هيبتها، بسبب تنازع الامراء الفونج على العرش وتسلط
الوزراء من قبائل الهمج على زمام الحكم. وبسبب تردي المجتمع
في الجهل بالدين ومن ثم ضعف الواعز الديني..
وقد انحسرت هذه الظاهرة بعد استقلال السودان، وانتهت الآن تماما
الا من بعض الحوادث الفردية في اقاصي بوادي غرب السودان..
وخلفت ارثا ادبيا فريدا.
و«الهمبتة» وهي تعنى «نهب وسلب الابل» كانت تعتبر من ارفع
ضروب الفروسية، وكانت حياة «الهمباتة» على غرار حياة اسلافهم
من «الشعراء الصعاليك» في الجاهلية عروة بن الورد والسليك
بن سلكه واضرابهم مع اختلاف جوهري رئيسي هو ان غالبية
اسلافهم كانوا لا يتورعون عن سلب الضعفاء والحريم بل وسبيهم
واسترقاقهم، فيما يتصف «الهمباتي» بصفات الفارس النبيل الكريم،
كما ان اسلافهم كانوا «خلعاء» لفظتهم قبائلهم، بينما «الهمباتي»
محل تقدير وافتخار قبيلته واحترام المجتمع، لأن المروءة والنجدة
والشهامة والكرم كانت من أخص خصائص «الهمباتي» اذ انهم
مغامرون شجعان، لا يهابون الردى والمخاطر، ويواجهون الأهوال،
ويتحملون المشاق، يحفظون القبيلة، ويرعون حق الجار والعشير،
ولا يسلبون الضعفاء.
وقد استأثرت هذه الظاهرة باهتمام الباحثين في العلوم الاجتماعية
والثقافية، اذ انها انتجت شعرا شعبيا ظلت المجالس تسمر به
وبحكاويهم في البوادي حتى الآن.
ومن ابرز من تناول هذا الموضوع الباحث الاستاذ الطيب محمد الطيب،
الا ان الاكاديمي الدكتور شرف الدين الامين عبدالسلام رئيس شعبة
الفلكلور بمعهد الدراسات الافريقية والاسيوية بجامعة الخرطوم
(رحمه الله) ، وحده الذي اوفاها حقها من البحث والتنقيب والتمحيص،
حيث جاب البوادي في شرق ووسط السودان ، دارسا ومنقبا،
واستقى معلوماته من منابعها الاصلية في الاطراف القصية
للبوادي، من افواه المشتغلين بها انفسهم، والمتصلين بهم
اتصالا مباشرا، ومن الذين شهدوا احداثها وعاصروا فرسانها، حيث
شملت زياراته منطقة الجعيلين في بادية البطانة في شرق النيل،
ومنطقة الكواهلة في البطانة بين نهري الدندر والرهد، ومنطقة
قبيلة حمر في بادية كردفان في غرب السودان.
واستعان الباحث باشعار« الهمباتة» في التعرف على مختلف جوانب
حياتهم، ونحن نستعرض هنا بعجالة هذا البحث التراثي الشيق:
أصلها ونشأتها:
«الهمبتة» تعني نهب وسلب الابل دون سواها!! و«الهمباتة» هم
الرجال الذين يمارسون نهب الابل، ومفردهم «همباتي» واللفظ
من لهجة عرب غرب السودان، ويرادفه لفظ «مهاجرا» ومفرده
«مهاجري» ولفظ «النهيض» و«النهاض» و مفرده «نهاض» في
بادية البطانة في وسط السودان، ولفظ «سراجه» ومفرده
«سراجي» في بادية كردفان.
وعن أصل الهمبتة ونشأتها يقول الباحث ان بدايتها كانت في اواخر
عهد السلطنة الزرقاء وما بعدها في القرن الماضي اثر ضعف
السلطة المركزية، وضعف الواعز الديني نتيجة للجهل الذي ضرب
اطنابه على المجتمع السوداني من جراء سياسة التجهيل التي
طبقها الحكم التركي، حيث راحت القبائل تغير على بعضها تسلب
وتنهب، وكان هذا العهد يسمى عهد «القيمان» وبعد سقوط
السلطنة الاسلامية الزرقاء على يد الاتراك العثمانيين وقيام سلطة
مركزية انحسرت ظاهرة القيمان وتقلصت واصبحت تتم بعدد من
الرجال يتراوح بين المئة والمئتين، وكانوا يسمون «النهاض»
وفي عهد الحكم الثنائي الانجليزي المصري مطلع القرن الماضي
توصلت ولكن بعدد قليل من الرجال يتراوح بين الاثنين والثمانية،
وبعد الاستقلال من الاستعمار واستقرار الغالبية من العرب الرحل
وانتشار الوعي الديني والتعليم اندثرت هذه الظاهرة الا من بعض
الحوادث الفردية في اقاصي البوادي السودانية.
دوافع الهمبتة
عاش العرب في السودان منذ ما قبل تصدع الاخدود الافريقي
الاسيوي العظيم عندما كانت اسيا وافريقيا قارة واحدة، ينداحون
في الارض، فلا تحدهم الا الجبال بين الفرس والترك والبحر الابيض
المتوسط غربا وعندما استشرى الجفاف والتصحر في شبه
الجزيرة العربية، راحوا يهاجرون الى وديان الانهار في العراق
والشام ومصر والسودان، وظلت الهجرات العربية تتواصل الى
السودان، وكانت اخرها هجرة حمير قبل الاسلام بخمسة قرون.
الامر الذي يؤكد ان الوجود العربي في السودان لم يكن امرا طارئا،
وواضح ان العرب لم يعيشوا في المنطقة الاستوائية من السودان
بل استوطنوا شرقه ووسطه وشماله وغربه. وعندما وفد العرب
الى السودان بعد الاسلام عاشوا فيه كما كانوا يعيشون في جزيرتهم،
وظلت حياة الترحال وراء الماء والكلأ هي ديدنهم وحمدا لله ان الباحث
قد استرشد باشعارهم، وهي «عربية فصيحة» فلينظر الاقحاح من
العربان في نسبتها الى جذورها في احرف لسانهم السبعة.
وقد توارث العرب في السودان الالتزام بقيم القبيلة وتقاليدها واعرافها
ومعاييرها الجماعية، وكما قلنا فان تفشي الجهل اواخر السلطنة
الزرقاء وسياسة التجهيل التي طبقها الغزاة الاتراك والانجليز، وضعف
الواعز الديني الناجم عن الجهل بالدين «الهمبتة» مكان الاعتزاز
والفخر، ودليل على الشجاعة والبسالة والاقدام والنبل والكرم
الفياض، وهي تكسب صاحبها تقدير واحترام القبيلة والمجتمع،
حتى ان بعض القبائل لم تكن لتعترف للشباب ببلوغ قدر الرجال اذا
لم يمارس الهمبتة، وكانت القبائل تتفاخر بهم، وتحتفل بهم حين
يعودون بعد رحلة موفقة، ذلك انهم يشركون في كسبهم كل
محتاج في القبيلة من الأيتام والأرامل والمسنين والفقراء،
كما ان الهمبتة كانت تكسب الرجل اعجاب الغواني..
فالرجل الصنديد «الولد» الذي يخاف ان تكومه القبيلة وتعيره بالخوف،
عليه ان يمتطي «يخلف ساقيه» جملا فحلا« تيسا» رقيق الفم
«قدومو» فاما ان يأتي بمال يرضي الظبية «البهم» ذات الرضاب
الذي يقطر عسلا« لهيجو مسكر» او ان تثكله نساؤه يحثو الرماد
على رؤوسهن «وهي عادة كانت سائدة في السودان عند موت
عزيز حيث تملأ الاقداح بالرماد، وتحثوه الباكيات على رؤوسهن.
ان الباسل الذي يريد «بدور» ان يحظى بشكر القبيلة عليه ان يركب
ويتوغل «يتوكر» في بلد العدو، فاما ان اتى «جاب» بما يرضي
الظبية ذات الرضاب المطعم بالسكر، او قضى وتبخترت الصقور
الصلعاء فوق جثته وصوتت «اب صلعة تيتل وكركر»!!
وواضح ان المرأة زوجة وبنتا واختا وأما وخليلة في حالة حضور دائم في
وجدان «الهمباتي» بل هي سبب رئيسي لاقتحام المخاطر وركوب
الصعاب، اذ هي الواحة التي يعود اليها «الهمباتي» من حياة المخاطر،
فتنسيه كل ما عانى من أهوال قاتلة ومشاق مرهقة، وفي كل
اشعارهم يتضح كمون المرأة في وجدانهم، ووراء مجازفتهم
بانفسهم من اجل اكتساب ودها!!
مجتمع الهمباتة
يتكون مجتمع الهمباتة من فئتين: الهمباتة الذين يقومون بنهب الابل
و«العملا» الذين يقومون ببيع الابل المنهوبة.. ومن أشهر الهمباتة
«الذين تتردد اسماؤهم الطيب عبدالقادر سليمان المعروف باسم
«ودضحوية» من قبيلة الجعليين، ورفيقه طه محمد ابو زيد
البطحاني المعروف باسم «طه الضرير» ومن نفس القبيلتين
الصديق ود عثمان ود التركاوي «اب ترمة» وعلي احمد علي،
و«كيقة» ودعمران والخضر ودفكاك، وعثمان ود علي «ترتر»
ومدني محمد عويضة والعطا ود حليلات ومن الكواهلة وقبائل
كردفان محمود ود آدم، عبدالله ود المقدم، شرف ود المجرب،
محمد ود عايس، ابو حبيب ابو زيد، حامد امبده، عبدالله حريكه،
عوض الكريم محمد ابراهيم، موسى ودكوكو، وغيرهم كثيرون.
العملا
كانت قبيلتا العليقات والعبابدة اشهر تجار الابل حيث كانوا يبيعونها
في مصر.. وتتألف فئة العملا غالبا من اشخاص كانوا همباته، ثم
تركوها لاي سبب من الاسباب، وهم الى جانب بيع الابل المنهوبة
يقومون بمساعدة الهمباتة بتقديم القروض لهم اذا ما اصبح احدهم
خالي الوفاض، ويقومون بتجهيزهم «تشهيلهم» وكانت بوادي
السودان تزخر بهم مثلما تعج بالهمباتة، وهم معروفون بالاسم
في كل قبيلة وكل منطقة، وقد كان من اشهرهم في شرق
السودان عواد، ادريس ود علي، علي جبريل، محمد هدل،
ومن قبيلة الكواهلة «محمود ود ادم، احمد ود المليح
ومن الجعليين في الشمال: احمد ود عوض السيد، احمد عوض
الكريم «ودضيقة» حاج علي ود طه، دوشان، وابو جارندة في
منطقة جبل دود غربي سنار، وفي غرب السودان جريجير من
عرب القريات وقنفود وعيد من الكبابيش.
ولم يكن عمل العملا قاصرا على الرجال بل ان «ستات المجالس»
ممن احترفن صنع الخمر وتهيئة مجالس اللهو من الجواري اللائي
نلن حريتهن بعد الغاء الرق في السودان، كن يقمن ببيع الابل
المنهوبة كما يقمن باقراض الهمباتي المال الذي يحتاجه..
يقول ود ضحوية:-
الدرب البجيب كمش النقود موهين
وما بمشيهو ديك بيتو اب جليدا لين
الولد البيقوم من أم حمد متدين
غصبا عنويا الساحر يسوقن بين
يخاطب جمله الساحر قائلا ان الطريق الذي يجيء بالنقود الكثيرة
«يجيب كمش النقود» ليس هينا ولا سهلا، ولا يمشي فيه من
يلازم بيته مثل الديك صاحب الجلد اللين الناعم.. ولكن الصنديد
الذي يقوم بعد ان يستدين من الغانية «ام حمد» فلا بد له ايها
الساحر من ان يسوق الابل واقتدارا عيانا بيانا.. ويقول اخر مخاطبا
ناقته: -
الليلة ام هلال امست سراتك تارة
واسايدك سواويق لي الردوف والداره
ان بردن نكافيبن سوالف السارة
وان حرن صناديدا نقابل الحاره
فهو يقول لناقته «ام هلال» ان سنامك «سراتك» قد رجعت للوراء
«ترت» من طول الركوب، وان أسيادك يعرفون قود «سواويق»
الابل ممتلئة الارداف، وتلك الحبلى «الداره» فاذا ما خلصن
«بردن» نكافئ بهن افضال وديون «سوالف» الغانية المسماة
«السارة» اما اذا تطلب الامر القتال فاننا صناديد في المعارك
الحارة.
السالف
والسالف هو ابرز صور التعاون بين الهمباتة، وهو يتمثل في واجب
الهمباتي نحو زميله اذا كان في موقف يحتاج فيه الى المساعدة،
فهو واجب وليس دينا يرد، فما ان يحتاج الهمباتي الى المساعدة
فانه يلجأ الى الهمباتة في المنطقة لمساعدته حتى دون سابق
علاقة او معرفة، ومن يتقاعس عن اداء هذا الواجب يعتبر خارجا
على «السوالف» وتسوء سمعته، ويحجم الجميع عن التعامل
معه او تقديم العون له في وقت الحاجة.
مراحل الهمبتة:
وتتم عملية الهمبتة عبر عدة مراحل تبدأ بتجمع الاسباب والدوافع،
ثم تحديد الهدف، ومكانه، ومعرفة الطريق اليه، ثم تأتي مرحلة
بلوغ الهدف واختيار الابل التي تتسم بدلائل القوة والقدرة على
التحمل والسير لمسافات طويلة، وتنتهي ببيع الإبل وانفاق المال
الوفير الذي تدره في اعانة المحتاجين والمساكين، ومساعدة
«رفاق الفرده» ثم الانصراف الى «ستات المجال» لشرب الخمر
واللهو مع الغواني الحسان. «وستات المجالس» هن من الرقيق
اللائي نلن حريتهن بعد الغاء تجارة الرقيق في بداية هذا القرن،
ولكن يَسكُنَّ في اطراف المدن والقرى ويتكسبن بصنع الخمر والبغاء.
وتحكم مجتمع الهمباتة قيم حميدة منها ماهو خاص بمجتمعهم، ومنها
ما هو شائع في المجتمع العربي البدوي عامة .. ومما هو خاص
بمجتمعهم اضافة الى حق «السالف» المكفول لكل رفيق:
حقوق الرفقة:
وللمرافقة في مجتمع الهمباتة قوانين تحكمها وقواعد تنظمها وقيم
تستند عليها ومعتقدات تدفعهم الى الالتزام بحقوقها .. واول ما
يحكم «الرفقة» ان الهمباتة قبل ان يبدأوا رحلتهم يتعاهدون
«الخاين الله يخونو» ويقرأون الفاتحة، وهم يعتقدون ان من يخون
«الرفقة» يلحقه الضرر في نفسه وذريته وماله، ويقولون «خون كل
شيء الا الغُردَه» والغرده هي الحزام الذي يربط السرج على ظهر
الدابة، وهي كناية عن رفيق الهمبتة .. وقد ادى هذا الاعتقاد الى
تمكن هذه الخاصية في نفوسهم والتزامهم بها، فاصبح الوفاء للرفيق
من اميز صفاتهم، وهو يصل الى حد الذود عنه بالروح والمال،
والرفيق دائما هو موضع الحفاوة والاكرام والاحترام، وما وقع في
مشكلة الا وتعاطف معه الآخرون، وسعوا بكل مايملكون لتخليصه
من مشكلته، واذاحدث ماحمل الرفيق على الغياب عن اهل بيته
قام الرفاق بمعاونتهم وبرعايتهم وحمايتهم وتوفير كافة احتياجاتهم
ومعاودتهم.
وقد استخلص الباحث من اشعارهم عدة اشكال من صور الوفاء
للرفيق تعبرعن شعور عميق بالتعاطف حين يقع احدهم في قبضة
القانون ويزج به في السجن .. سمع «ود ضحوية» ان رفيقه
«طه الضرير» قد حكم عليه بالسجن فقال: -
الليله النّفس أمسَت حزينة وعامدة
وما بَتْسلّى بي بُرقُع حميده وحامدة
فارْقَنا أبان قلوبا جامدة
ناس طه اللّحو ضو القبيله الخامدة
يقول ان نفسه امست حزينة ومنقبضة ولاتسليه مجالسه الغيد
الحسان ولابراقع «حميدة وحامدة» بعد ان فارق رفاقه «الرباعة»
اصحاب القلوب الشجاعة، وخاصة «طه» الذي يشبه الاسد
«اللحو» ضوء القبيلة التي تخمد نارها.
ويقف الهمباتي الى جانب رفيقه عند القبض عليه، ويبذل كل مافي
وسعه لتخليصه من ورطته: -
الخبر البيجي الصديق مقفل جوه
حالف مابقيق دونو ان بقيت في هوه!!
فقد ورد خبر بأن رفيقه «الصديق» ود التركاوي قد سجن فاقسم
الا يكف عن السعي لخلاصه حتى قاده ذلك الى هاوية.
ومن صور الوفاء للرفيق عندهم ان احدهم اذا قبض عليه بجريمة
سرقة الابل فانه يتحمل وحده العبء ولايذكرشركائه او يقر باسمائهم،
وبالمقابل فإن شركاءه يسعون بكل السبل لتخليصه، واذا اخفقت
محاولاتهم فانهم يتكلفون باعالة اسرته طوال مدة بقائه في السجن.
ـ قواعد الهمبتة:
وتقوم الهمبتة على قواعد يتحتم على «الهمباتي» مراعاتها والا
فهو لايعد في عداد «الهمباتة» ويكون محتقرا .. واول هذه القواعد:-
ـ الابل فقط:
ان الهمباتي لا يقرب الا الابل فقط دون غيرها من المواشي او الاموال،
كقاعدة اساسية تميز بين الهمباتي واللص.
ما بتدبى لي عنز الفطيم والشاي
بعرف سوق بكارا دلتن داداي فمن العيب ان يدب متلصصا ليسرق
المعزى التي تحلب للطفل الرضيع وللشاي وهو يعرف فقط سوق
النياق على اصوات الحداء «الداداى» ذلك ان نهب الابل في عرفهم
عزة وفخر ويجلب تقدير وثناء القبيلة كمايجلب اعجاب الغواني ..
ونهب غير الابل فيه ضيعة وصغار ويجلب الذم والاحتقار ..
ويرجع الباحث ذلك الى ان الابل هي اثمن ثروات البدو، العائد منها
لايقاس بالعائد من غيرها كالبقر والضأن، وهناك الجانب الاجتماعي
حيث تقاس ثروة الرجل بمايملك من ابل تحدد مكانته في السلم
الاجتماعي، وفوق هذا وذاك فإن الابل قادرة على السير لمسافات
بعيدة لايدركهااصحابها الذين يقتفون اثرها(الفزع).
ويحكى عن «السريري» وهو احد همباتة الكواهلة انه مر بقرية بها
مناسبة زواج، فطلب من رفيقه ان ينتظر زفة العريس «السيرة»
لرؤية الفتيات الجميلات «والعرضة فوقهن» وعندما جاءت الزفة
حمل السريري بندقيته وبقي رفيقه عند الجمال مصوبا سلاحه
الناري، واطلق السديري عيارا ناريا من بندقيته ووضع فيها ظرفا
آخر، وطلب من الرجال ان يقفوا على جانب ففعلوا مرغمين،
افراح يسلب النساء حليهن الذهبية والفضية من عقود وأساور
واقراط وخواتم، ثم طلب من رفيقه ان يحضر «الفروج» فاحضرها
وفرشها، فطرح فيها السديري الحلى، وقال للنساء: يابنات العم
اردت ان تعرفن انكن كنتن تغنين لنساء مثلكن لا يقدرن على حمايتكن ..
انا لا اريد حليكن فلتأخذ كل منكن حليها.
ـ العلانية:
ان الهمباتي لا يأتي متلصصا في الخفاء، وانما يحصل على غنيمته
جهارا نهارا وعنوة واقتدارا.
والهمباتة يعزفون عن الابل «الهاملة» ولا يسلبون الا الابل المحمية:
الزول البدور من البوادي ضريبة
يبقى موارك الغربه ويبعد الريبة
ما بتدبى لي الهاملة البشوفا غريبة
الا السيدا في الدندر مسيلها زريبه.
فالشحص الذي يريد من البوادي فرصة عليه ان يداوم «يوارك» على
الغربة ويبعد ريبته عن القبيلة والجار والعشير، انه لا يتلصص ويسرق
الناقة الهاملة التي يراها غريبة ولا ينهب الا الابل المحمية التي
اقام لها اصحابها الحظائر في بادية الدندر.
ـ البعد:
ان الهمباتي لا ينهب من قبيلته ولا من الجار والعشير: -
الولد البدور الشكره يابى الشينه
يبعد ردو غادى .. ينطح بوادي جهينة
اما نجيب فلوسا تبسط الراجينا
ولا أم روبة لاحولين تكوفتو علينا
فمن يريد ان يشكر ويأبى الفعل الشائن عليه ان يوغل في البعد ويقارع
الابطال من جهينه في بواديهم بغرب وشرق السودان فاما ان يأتي
بمال يفرح الحبيبة التي تنتظر عودته «نبسط الراجينا» او ان ذات
الشعر الغزير الطويل «ام روبه» تحد عليه لمدة حولين فلا تضفر
شعرها ضفائر ناعمة وانما تضفره ضفائر غليظة «كوفات» ولا
تطيبه لمدة عامين.
وهم وراء الابل الاصيلة اينما كانت، يقول طه ودأب زيد: -
ابوك يا الزينة عكاهن قبض في روسن
الهوج والشرق فوق العواتي بكوسن
يقول لابنته «الزينة» ان أباك كم استولى على الإبل وقاده وانه يجوب
الغرب «الهوج» والشرق بحثا عنهن «بكوسن» .. وقد وردت في
اشعار ود ضحوية وطه الضرير واضرابهما من وسط السودان اسماء
مناطق في الشرق والحدود الحبشية والبحر الاحمر وفي الشمال
عند الحدود المصرية: -
كم عتمر تبن فوق قجة العبادي
وكم غوصتلن من الدنادر غادى
فكم من ابل قادها عبر صحراء العتمور في الشمال وهو يمتطي جمله
المنسوب لقبيلة العبابدة اصحاب الابل الجيدة، وكم ابعد وتوغل
«غوص لهن» في البحث عن ابل الى ابعد من نهر الدندر عند
ا لحدود الحبشية.
ـ حق الجار:
ان مراعاة حق الجار من ابرز القيم العربية وارسخها جذورا، اذ هي
متأصلة في طباعهم منذ جاهليتهم، وهي من اوجب واجبات الهمباتي
وكما اوضحنا فانهم يبعدون عن مضاربهم وجيرانهم ويتوغلون في البعد
رعاية لحق الجار.
ببعد ردى مابتدبى اخوان الجار
وبحرت كفى في اليوم أب لطاما حار
فهو يبعد من جيرانه ولا يدب متلصصا ويخون جاره، وانما «يحرت كفه»
في يوم العار اللطام حتى تخلص له الابل.
ـ الشجاعة:
ان الهمباتة هم رجال صناديد يتمتعون بصفات نفسية وجسدية تهيئهم
لهذه الحياة الخطرة التي يجابهون فيها الموت والمخاطر والاهوال
والصعاب ويتميزون بقدرة فائقة على تحمل المشاق .. ذلك ان
الشجاعة هي اوضح سمات الهمباتى، لان طبيعة الهمبتة تجعله
في حالة خطر دائم من جراء نهب الابل حيث ان اصحاب الابل
المنهوبة «يفزعونها» سعيا لارجاعها ، ويطاردون الهمباتة وتقع
بينهم معارك بالاسلحة التقليدية والنارية .. يقول ود ضحوية: -
الناس أل على «الساحر» بيشقوا الصى
أمسو الليلة فوق راياً نجيض مانى
ناس أب تَرمَه جاموس النحاس أب دى
عقدوا الشوره ميعادهم جبال كربى
ان الاشخاص الذين يشقون الفيافي على مثل جملة «الساحر» امسوا
وقد عقدوا العزم على رأى ناضج «نجيض» وليس نيئا. وشبه جسارة
« رفيقه «الصديق ود التركاوى» الملقب بأب ترمه أي «ذي السن
المكسورة» بجسارة الثور الوحشي عندما تدوي طبول الحرب
«النحاس أب دى» وقال انهم قد عقدوا رأيهم على اغارة جبال
كربي البعيدة.
فيوما في نعيم وبهجة وسرور مع الحبيبة التي تجعل نومه متقطعا،
ويما يستترون بثباتهم من لفح رياح السموم .
وهم: يوم جالسين مع الحزم القُصار مربوعه
ويوم ماسكين نقيب صايدانا عطشه وجوعه
فهم يوما في سعادة مع حبيباتهم مربوعات القوام، ويوما يسيرون
على طريق طويل وسط الاحراش فريسة للعطش والجوع ..
فهو يقضي يوما على ظهر جمله يكربت به «والكربتة ضرب من
جري الابل» ويوما يتعشى بالربيت «وهو الشحم الذي استخرج منه
الودك يقليه بالنار» ويوما يتعاطى التمباك «التابا» ويبيت عليه الطوى،
فاما ان اتي بمال يفرح الحبيبة ذات السوميت «الخرز» او ان تنطرح
جثته قتيلا في جبال سقدى ولم يعد.
ـ أنفة:
والهمباتة يعشقون حياة المخاطر ويحتقرون حياة الدعة يقول ود ضحوية: -
انا مانى التنبل أل في البيت صناعتي حليب
بدور الشدة فوق ابل شوافي ونيب
فهو ليس البليد الكسلان الذي يقيم بالبيت يحلب اللبن، انه يريد «بدور»
الركوب على إبل قوية نبتت انيابها ... وهم يأنفون من حياة الزراعة ..
وكان والد ود ضحوية قد اصر عليه ان يترك حياة الهمبتة والبقاء في
القرية.
انه لو لا ما هو مقسوم له ومقدر عليه لايهتم ولا يبالي «ما خسانا»
بزراعة الوادي الصغير المسمى ودى مسعود، والديفة هي الظبية
البكرة والوضيب الشعر الذي شبهه لطوله بالرسن «يقود» ويقول
احد همباتة حمر:
البكره العليها الطقة والطباعة
انا بعيش فيها سيبك من هموم وزراعة
ان هدفه هو الناقة الموسومة فهي حياته، ويقول لحبيبته دعيني
من الهموم ومن الزراعة.
والهمباتة في مواجهة المخاطر يعتمدون على اسحلتهم ..
يقول ود ضحوية:
كم فزعا خمدنا بيضة سنو
ياريت السيوف كان تحكى بي الفاعلنو
والفزع هم أهل الابل الذين يطاردون الهمباتة، يقول انهم قد اخمدوا
بياض اسنانهم بأن جعلوهم يعودون بدونها خاسئين ويتمنى أنه لو
كانت السيوف تتحدث لاخبرت بافعالهم .. وهم في سبيل الإبل
لايرهبون القيود والسجون.
ـ المروءة:
ان الهمباتة يتصفون بالمروءة والنجدة والشهامة، ومثلما تحلو لهم
مجابهة المخاطر من اجل المال، يحلو لهم انفاقه في اعانة
المحتاجين، ومساعدة المساكين، وحل مشاكل اقاربهم ومعارفهم،
وقبل هؤلاء جميعا «اخوان الفردة» رفاق الحاره ..
يقول ود صحوية:
عند طرش الدرق ما بنسى شرط الخوه
كباس لي الدهم عند البيقول يا مروه
فحين البأس وقراع السيوف للدرق لا ينسى واجبه تجاه رفاقه،
وهو يندفع في الليل لنجدة من يطلب النجدة وينادى «يا أبو مروة».
ومن مروءتهم انهم لا ينهبون ابل الفقراء من الناس الذين يعتمدون
عليها في معيشتهم وترحالهم .. ولا ينهبون ابل اليتيم حتى لا
يزيدون احزانه .. ولاينهبون ابل امرأة مهما كانت كثيرة ..
ولا يتعرضون لاصحاب الابل المشهود لهم بالكرم ومساعدة
المحتاجين والمساكين.
ان هدفهم دائما وأبدا هم الاغنياء من اصحاب الابل الذين لايعينون
المحتاج ولا يساعدون المسكين.
ـ الكرم:
ان الكرم من ابرز القيم العربية، وهو من اخص خصائص الهمباتة فهم
كما قلنا يعينون المحتاجين ويساعدون الفقراء والمساكين، وقد يصرفون
كل مايصل الى أيديهم من مال في هذا السبيل، وخاصة للرفاق: -
ان بردن نقود مانى البخيل صريت
وان حرن بكار ماهن صفايح زيت
ان الغنيمة اذااصبحت باردة في شكل نقود فإنه لا يصرها ويبخل بها،
اما اذا تطلب الموقف القتال فهو يقاتل من اجل بكرات تستحق الموت
وليس من اجل صفايح زيت.
::::::::::::::::::::::::::::
المصدر : مدونة
زهير شرف الدين الامين